Follow me on Twitter

الجمعة، 22 نوفمبر 2013

مشهد من الأيام الأخيرة: أنا وقعت

كانت الثلاجة معطوبة، من شهور وشهور، يتجمع في قلبها، من موضع مجهول، ماء ثقيل وزلق، يتسرب إلى الأرض كلما فتح أحدنا الباب...

ذهبت أفتحها، بلهوجتي المعتادة، وتعجلي الانتهاء من كل شيء وأي شيء، وفتحتها فعلاً، وكان الباب في يدي، ثم داست قدمي الحافية في بقعة الماء الثقيل، فانزلقت على السيراميك المصقول، والتوت، وانثنى، ببعض الألم، مفصل إبهامها الذي يفضله النقرس على سواه ويهاجمه بشيء من الانتظام...

اختل توازني، بالطبع، ولم تجد يدي الممسكة بباب الثلاجة ما تتشبث به دون السقوط...

فسلمت بقضاء الله، وتركت نفسي للجاذبية، محاذراً فقط أن أبتعد برأسي عن حافة ترابيزة السفرة، الحادة البارزة...

لم تكن الهبدة عنيفة جداً، أو مؤلمة جداً، لكنها، على نحو غامض، آلمتني، وجرحت بداخلي كبرياء طفولية ما، كنت ألملمها وأخفيها عن الأنظار، في فترة تكالب الأمراض والأوجاع عليها، هي...

ولم أملك سوى الصياح، بصوت حاولت أن أجعله مرحاً، لاهياً، غير مبال، بصوت فيه ضحك واستهزاء من الحادثة الضئيلة، المضحكة فعلاً رغم كل شيء: أنا وقعت. 

فأقبلتا، ملهوفتين، جزعتين، تستطلعان أمر ذلك الذي وقع. 

جاءت صغيرتي، حبيبة قلبي وقرة عيني، ووقفت في مواجهتي، تريد أن تنهضني من رقدتي على ظهري، على الأرض، ومدت لي يدها وهي تغالب ضحكها وتكتمه ـ المجرمة!

أما هي فكانت قد تأخرت قليلاً، أثقل المرض خطوها، وجرح العملية الأولى، وخرطوم الدرنأة المتدلي منه. وبينما كنت أنهض من على الأرض، ممسكاً بيد ابنتي، قالت لي، بصوتها الذي أدرك كل شيء، كل ما شعرت به وما احتجت أن أقوله، ولم أقله، بصوتها الذي تخصصه لمخاطبة الرضع والأطفال الصغار، صوتها الذي يقطر حنواً واسترحاماً...

قالت لي: يا حبيبي.

الجمعة، 18 أكتوبر 2013

قاهرة الأضواء

نور كبير .. على مياه كبيرة 

(بيت شعر من والاس ستيفنز ـ ترجمته لنفسي، كما كنت أفعل، ونسيت القصيدة)

أيام زمان، حين كان وحش القاهرة يقبل الترويض، كنت أخرج .. وأمشي

كانت السماء مكشوفة

لا تحجبها عنا طبقات فوق طبقات من التراب والسخام

وكان الهواء شفافا! تصوروا! 

فكان بوسعي تبين أرهف الفروق، وأدنى الاختلافات، بين خصائص النور، ليلاً، في المناطق والأحياء

وصلت يوما إلى تلك المنطقة ـ التي كانت غامضة ـ على تخوم المهندسين، تكاد تلامس الكيتكات لكنها لا تفعل .. هل يسمونها الآن الصحفيين؟ 

وهالتني طبيعة الأضواء : الأضواء هنا مكتملة، مكتفية بذاتها، كل واحد منها يشع كأنما لذاته فقط، لكنه بطريقة ما مأنوس وحميمي، ومعظمها يتخذ ذلك الشكل الأكثر حنوا وأرضية وسط جميع الأشكال الهندسية: الكرة 

بعد تمشية لم تطل كثيرا وصلت إلى الكيتكات، وكان التغير لحظيا؛ فأضواء الكيتكات غلابة، صريحة، عملية و"واقعية" بشكل ما، لكن بينها تآزراً لم أجده حيث كنت لتوي، كأن كل هذه الأنوار تقتسم نوراً واحداً، يشع من كل واحد منها، ومن الجميع في وقت واحد. 

في امبابة، التي لنا فيها بيوت ملك وأقارب، كانت الأنوار أخفت، وأكثر تباعداً .. ولكنها لهذا أفعل وأوضح. كانت أنوار امبابة على قدر الحاجة فقط، ولكن هذا التقشف كان يمنحها شاعرية تغيب عن عابدين، حيث تربيت ـ رغم أن امبابة ليست شاعرية .. على الإطلاق

كان الضوء في عابدين ـ ووسط البلد، بالامتداد ـ مسرفاً، وشديد التنوع في الألوان والأشكال والأنواع ودرجات السطوع، حتى الابتذال

كان بوسعك اكتشاف هذه الفروق، بأوضح ما تكون، على النيل ـ الضوء الكبير على المياه الكبيرة ـ فما يتلألأ على الماء عند الكيتكات غير ما يتوهج على كورنيش ماسبيرو وقصر النيل وبداية وسط البلد، ويختلف عما يتماوج ـ لا يكاد يبين ـ على مياه المنيل والروضة، مثلا

أما اليوم .. 

اليوم أصبح الهواء في القاهرة حجابا، يغلف الأضواء ويغلف ـ بل يغلق ـ كل شيء

وصارت السماء بعيدة


الأحد، 5 مايو 2013

وكأن المحبة فرض كفاية

خلوني مع نفسي ... شوقي زاد حنية، من اللهفة لعيناهم
وأراجع ذكريات أمسي، وماضي ما حصل ليا، بعد أن عز لقياهم
من الود قلبي يسقاهم...
عساهم يذكروا ودي عساهم، في الروحات والجاية، معاهم صادق النية

نشرت هذه الأغنية الجميلة على ساوند كلاود، وسمعتها مرات ومرات، وفكرت...
لأنها ذكرتني بما لعلني لم أنسه قط، بما تكنه نفسي عن العربية وتراثها.
فأنا أعتقد مخلصا أن العربية خير لغة تعبر عن الحب، وتراثها من هذا التعبير غني بما لا يقاس ولا يقارن. أو لنقل...المحبة. 
أهناك لغة أخرى تشتق من أصل واحد كلمتين كالحب والمحبة، بينهما كل هذه القربى، وكل هذه الفروق الدقيقة ورهافة الظلال؟ 
أهناك لغة أخرى يتغنى أهلها بالحب كما نفعل؟ 
أهناك لغة أخرى تصف الحب الإلهي بوجده اللاعج، المسلّم مع ذلك بحتمية الانفصال، كما عند ابن الفارض؟ أحبك حبين ـ فرقة ابن عربي
أو تصف الحب الإلهي شطحاً وتمرداً على الانفصال كما عند الحلاج؟ 

في الأغنية الأولى، ليس ثمة مجاز، أو بالكاد...فكلمات المحبة في العربية شعرية بذاتها، دون استعارة أو تكنية. 

في لغتنا كثير كثير من الحب. أتراه أكثر مما ينبغي؟ 
ألا نستشعر كلنا في حياتنا العامة، في عيشنا المشترك، افتقادا فادحا للمحبة؟ 
كأننا نحب ـ في اللغة، بل باللغة ـ كي نتخفف من أعباء المحبة. 
وكأن المحبة فرض عين، تؤديه عنا أشعارنا وأغانينا، فلا يبقى بين أيدينا منها بعد ذلك إلا ما يكفي ـ بالكاد ـ لأنفسنا ولـ"عشيرتنا" الأقربين. 

وليس في هذه الفكرة جديد، ولا هي فتح غير مسبوق في الدراسات الثقافية أو علم اجتماع اللغة أو ما شئت من المباحث المستحدثة في علوم الإنسان. قيل عن شيكسبير، مثلا، إنه، بطغيان عبقريته، استنزف الإنجليزية وأجدب قرائحها قرنين من الزمان...لم يجد القوم بعده ما يقال، ببساطة. وهذا مقارنة، مثلا، بالفرنسية، التي ظلت تنتج كبريات الأعمال في كل القوالب قرنا بعد قرن، لأنها خلت من "شيكسبير"ها. 

المحبة إذن عبء، تحمله عنا لغتنا.

عسى أن نحمله، نحن، يوما، عنها.

السبت، 16 فبراير 2013

مجرد ترجمة

من زمان ما جتش هنا...
 حصلت حاجات كتير من ساعة آخر مرة، وبعدين في آخر الصيف اللى فات حصلت الكارثة اللى شقلبت حياتى، واللى لسة مش قادر أتكلم عليها...ويمكن عمرى ما هاقدر. 

المهم إنى عترت على المقالة الجاية دى في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" ـ العدد الأخير، وآدى اللنك بتاعتها: http://www.lrb.co.uk/v35/n04/ghaith-abdul-ahad/how-to-start-a-battalion-in-five-easy-lessons. وشديتنى جدا، خصوصا إن الكاتب عربي، وصممت أترجمها وانشرها...حسيت إن البعض ممكن يلاقى فيها إجابات لبعض الأسئلة، وأى حد يقراها هيجدها ـ على أقل تقدير ـ "مشوقة". وها هي ترجمتى ـ الحرفية بقدر الإمكان ـ للمقالة. 

كيف تنشئ كتيبة (في خمسة دروس سهلة)
غيث عبد الأحد في تقرير من سوريا

في غرفة المعيشة الضيقة بشقة جار عليها الزمان قريبة من خط الجبهة في حلب، كان اثنان من المتمردين يجلسان أحدهما بإزاء الآخر. كان الجالس على اليسار ممتلئأً عريض المنكبين، بلحية مشذبة تبدو وكأنها مرسومة بقلم رصاص رفيع على عنقه ووجنتيه. كان قميصه وسرواله مكويين بعناية، كما كان يرتدي زيا عسكريا جديدا بشوكه ـ من النوع التركي باهظ الثمن، لا التقليد السوري الرخيص. أما المتمرد الجالس أمامه فكان أصغر سنا، نحيلاً ومتعباً، وكانت يداه متسختين، وسرواله ملطخا بالطين والشحوم.

كانت الشقة فيما مضى ملك امرأة عجوز، وآثار الحياة المنزلية التي انتهى وجودها منذ زمن طويل متناثرة حول الغرفة ومختلطة بممتلكات الشاغلين الجدد. كانت منفضة سجائر من الصدف تجلس بجوار كومة من أجهزة اللاسلكي، وتماثيل صغيرة من الخزف تقف فوق التلفزيون بجوار علبة خراطيش، والبنادق والذخيرة ترقد على الكراسي الخشبية المتداعية، وعلى الحائط تقويم بمناظر طبيعية حالت ألوانها. في غرفة النوم المجاورة كانت الثياب مكومة على السرير بجوار صناديق الذخيرة. كان المتمرد الممتلئ متململا، يتعجل الانتهاء مما جاء ليقوله والرحيل سريعا. أما الآخر فقد بدا كرجل ينتظر اكتمال فصول كارثة.

إلا أنهما، كزوجين يحاولان استكمال إجراءات الطلاق بتحضر، أنفقا وقتا طويلا على المجاملات: فسأل كل منهما الآخر عن قريته، وامتدح شجاعة قومه وعزيمتهم. في الخارج كان مدفع رشاش ينطلق دون هوادة في الشارع، لا يقطعه سوى الهدير المكتوم لمدافع الهاون.

وأخيرا قال الرجل الممتلئ: "سآخذ أبناء عمومتي وأرحل بعيدا عن الجبهة".

فانتحب المتمرد الشاب: "لماذا؟"، وكأن إحدى دانات الهاون قد أصابت رأسه. "هل ارتكبنا أي خطأ؟ ألم نطعمكم كما يجب؟ ألم يحصلوا على حصصهم اليومية؟ إننا نقسم أي ذخيرة تطالها أيدينا بالتساوي: قل لي فيم أخطأنا".

"كلا، كلا، لا خطأ هنالك ـ لكن يبدو أنه لا يوجد عمل هنا".

"لكن هذا موقع دفاعي مهم"، يناشده المتمرد الشاب. "حلب كلها تعتمد على هذا التل. إذا رحلتم ستنكشف اثنتان من نقاط الجبهة. سيتمكنون  من الإحاطة بنا".

"أنا على يقين من تكفلك بالأمر. بارك الله رجالك، إنهم أهل لها".

"أين ستذهبون؟"

"هناك رجل طيب، فاعل خير ـ من بلدتنا لكنه يعيش في الخليج ـ قال إنه مستعد لتمويل كتيبتي الجديدة. ويقول إنه سيدفع لنا ثمن الذخيرة وسيكون من حقنا الاحتفاظ بغنائم القتال كلها. ما علينا سوى تزويده بمقاطع الفيديو".

"لكن لماذا يفعل هذا؟ علام سيحصل في المقابل؟"

"إنه يريد مرضاة الله، ويريد منا مقاطع فيديو لكافة عملياتنا. هذا كل شيء ـ مقاطع فيديو على اليوتيوب فقط".

"حتى يحصل على المزيد من المال".

"هذا شأنه هو".

أنفق الاثنان بعض الوقت على المجاملات، لكن الطلاق كان قد وقع. خرج الرجل الممتلئ. وكان في انتظاره في البرد نصف دستة من الرجال، شبابا، مخلصين، فتية ريفيين معهم أربعة بنادق. كانت سجائرهم تتوهج في العتمة وهم يسيرون خلف ابن عمهم، قائدهم الجديد، بسرواله وقميصه المكويين، الذي وعدهم بطعام أفضل، وذخيرة لا تنفد، والنصر. وهكذا تشكلت كتيبة جديدة، كتيبة أخرى من مئات الكتائب التي تخوض حرب التمرد والثورة على نظام بشار الأسد.

لطالما أقبلنا بشهية طيبة، نحن أهل الشرق الأوسط، على الانقسام. يعزوه البعض إلى الفردية، ويلوم البعض طبيعة تطورنا السياسي أو قبليتنا. بل إن البعض يلوم المناخ. أما نحن فنسميه "التشرذم"، ونمقته: ونعتبره السبب الرئيس في كل خساراتنا وهزائمنا، من الأندلس إلى فلسطين. ومع ذلك فإننا نعشقه ونستدفئ به ونتفوق فيه، وإذا كنا نظهر التقدير لشيء فإننا نظهره للفصيل الذي ينقسم إلى فصائل أصغر. لكن حتى بمقياس الحروب الأهلية السابقة في الشرق الأوسط، يبدو أن السوريين قد بلغوا ذرى جديدة. فالفلسطينيون، رغم كل شيء، كان لديهم في عز مجدهم نحو دستة فصائل أو نحوها، واللبنانيون، باركهم الله، مدعين أن الأيديولوجيا هي التي فرقت بينهم، لم يتجاوزوا الثلاثين فصيلاً قط.

في اسطنبول سألت صحفيا وناشطا سوريا عن سبب تعدد الكتائب هكذا، فضحك وقال، "لأننا سوريون". ثم مضى يحكي لي حكاية سمعتها مرات عديدة من قبل. "حين قام الرئيس السوري، زعيم العسكر الحاكمين وقتها، بالتوقيع على اتفاقية الوحدة مع ناصر، التي أسلمت البلد للمصريين فعليا وجردته من لقب الرئيس، ناول الورقة لناصر قائلا: لقد تنازلت عن دوري كرئيس لكنني أعطيك بلدا به 4 مليون رئيس".

طوال عقود ظلت الدكتاتورية السورية تعمل لقولبة الشعب على الخضوع: كل منبر، وكل منفذ إعلامي، وكل كتاب مدرسي، كانت ترسل نفس الرسالة، أن على الشعب أن يخضع للحاكم. في سوريا (كما في العراق ومصر وبقية البلدان، وإن بطرق مختلفة) كان أصحاب السلطة ـ من الرئيس وحتى الشرطي، من أعلى الكوادر الحزبية وحتى أصغر موظفي الحكومة ـ يمارسونها على كل جانب من جوانب حياة الناس. كنت تقضي حياتك في محاولة لتجنب الإذلال ـ ناهيك عن الاحتجاز والتعذيب والاختفاء ـ على يد أصحاب السلطة، بينما تقوم في نفس الوقت بالتذلل إليهم ورشوتهم، ومناشدتهم لإعطائك ما تحتاج إليه: خطا هاتفيا، أو جواز سفر، أو مقعدا في الجامعة لابنك. وهكذا حينما انهارت هذه النظم التسلطية، انفجر شيء ما داخل الناس، حس بالفردية طال قمعه. لماذا أستسلم لسلطتك كقائد بينما أستطيع أن أقود نفسي وأحارب حربي التمردية بنفسي؟ كثير من الكتائب المبثوثة في أنحاء الريف السوري تتكون من رجل واحد على صلة بممول، مع قلة من أبناء عمومته وعشيرته. ويتحول هؤلاء إلى جماعات مقاتلة متجولة، تنتقل من معركة إلى أخرى، مستميتة على التمويل والقتال وما يعقبه من غنائم.

رسميا ـ أو هذا على الأقل ما يود لنا الكثيرون أن نعتقده ـ تعد كافة الكتائب جزءا من الجيش السوري الحر. لكن منذ بداية الانتفاضة في مارس 2011، لم يتمكن الجيش السوري الحر قط من التحول إلى منظمة لها هيكل قيادي مركزي يتيح لها تنسيق الهجمات وتحريك الوحدات على الأرض. حتى وقت قريب كان العقيد رياض الأسعد، القائد الاسمي للجيش السوري الحر، ورفاقه المنشقون عن الجيش السوري، محتجزين في "معسكر الضباط"، وهو معسكر خاص للاجئين في جنوب تركيا ـ لحمايتهم، كما يقول الأتراك. كانت كافة الاجتماعات والمقابلات مع العقيد المنشق تمر عبر المخابرات التركية. وقرب نهاية العام الماضي أعلن الجيش السوري الحر أنه نقل مقر قيادته إلى الجانب السوري من الحدود، في محاولة لإثبات أهميته. لكن الكتائب لم تزل تتشكل على يد قادة يعملون ويقاتلون بمبادراتهم الشخصية في أرجاء سوريا، ويسلحون أنفسهم عبر قنوات عديدة ومختلفة تنفرد بها بلداتهم وقراهم. بالنسبة لهؤلاء لا يزيد العقيد عن "رأس متكلم" وألعوبة في أيدي الأتراك، ولا يزيد الجيش السوري الحر عن عنوان. ثم نشأت مشكلة أخرى حين بدأ ضباط برتب أعلى ينشقون عن الجيش. من الذي يقود الجيش السوري الحر؟ الضباط الذين انشقوا أولا؟ أم الرجال الأعلى رتبة؟ وبدأت تظهر منظمات موازية من الضباط المنشقين، لكن قلة منها كان لها نفوذ حقيقي حيث يكون للنفوذ قيمة.

فكيف إذن تنشئ كتيبة في سوريا؟ أولا، أنت بحاجة للرجال، شباب من الريف على الأرجح، حيث كان فائض العاطلين على مدار القرون يمثل معينا لا ينضب للجيوش وحركات التمرد. أما السلاح فسيجلبه المهربون، ويفضل أن يكون من العراق أو تركيا. كما ستحتاج إلى شخص يعرف كيفية تشغيل الحاسب المحمول و/أو كاميرا الفيديو، ويجيد رفع مقاطع الفيديو على الإنترنت ـ ضرورة لا غنى عنها لالتماس التمويل من المهجر أو من ممولي الخليج. كما أن القليل من الأيديولوجيا لن يضر، بمسحة من أحد أصناف الإسلام السياسي. وستحتاج أيضا إلى النقود، لكن 3 أو 4 آلاف دولار تكفي لبدء المشروع.

قبل الانتفاضة بكثير كان أبو عبد الله وإخوته قد ربحوا ثروة من نشاطهم في الاستيراد والتصدير والنقل عبر الحدود. كانت شاحناتهم تعبر حدود تركيا وسوريا ولبنان والأردن والعراق وحتى السعودية، فتنقل الخضر التركية إلى العراق وتعود بالوقود، وتأخذ الفواكه السورية عبر الأردن وحتى الحدود السعودية. ولم تكن كل المنتجات التي يتجرون فيها سريعة الفساد، ولا كانت كلها مشروعة؛ فالبنزين السوري المدعم كان يهرّب إلى لبنان وتركيا.

كان هؤلاء الإخوة، ككثيرين من نخبة التجار الأثرياء، مسلمين محافظين، رغم أنهم ليسوا راديكاليين ولا سلفيين. وبفضل ثروتهم وديانتهم، كانت لهم علاقات تمتد عبر الوسط التجاري في الشرق الأوسط كله، شبكة التهريب غير المشروعة الخاصة بالمنطقة، والأهم من هذا، علاقات بكبار الدعاة والعائلات الدينية في الخليج. وحين هبت بلدتهم الأم حمص مبكرا، في انتفاضة تحولت سريعا إلى عصيان مسلح، كان السوريون الأثرياء ـ والمتدينون عادة ـ مثل أبو عبد الله هم الذين يرسلون المال ويديرون الخدمات ويوفرون الطعام والوقود. وما زال دورهم محوريا في أعمال الإغاثة الإنسانية في سوريا.

استغل أبو عبد الله شبكته الواسعة الممتدة عبر الحدود لجلب السلاح والذخيرة أيضا. "كانت لي خمس شاحنات بيك-أب مليئة بالسلاح والذخيرة تأتي من لبنان وعشرة من العراق كل أسبوع. بدأنا ببنادق الصيد ونحن الآن نجلب المدافع المضادة للطائرات. نحن مدد الثورة".

إنه رجل طويل، متين البنيان ويتمتع بثقة الثري المحاط بفلاحين فقراء. ويدير نشاط تمويل الانتفاضة وتسليحها من حجرة صغيرة مبنية بالأسمنت المسلح في أعماق بستان لأشجار الصنوبر والزيتون المتحدرة على سفح جبل بمحافظة إدلب. تأتي الوفود من أنحاء البلاد للجلوس معه على الأرض. بعضهم يطلب السلاح وبعضهم يأتي بالمال. مئات الآلاف من الدولارات تمر عبر الغرفة. وفي الليل يرقد على حصيرة رفيعة على الخرسانة العارية. لقد اتضح أن التحول من الخضر إلى الأسلحة أمر في غاية السهولة، كما قال. لكن مع اشتداد القتال وانتشاره، نشأت الحاجة إلى مزيد من التنظيم ومزيد من المال لدفع المعركة باتجاه نقطة الحسم. وتم وضع خطة عريضة لتنسيق تدفق السلاح.

"بلغنا نقطة في القتال، في ربيع 2012، كنا نحتاج عندها إلى دعم حقيقي. كنا بحاجة إلى مدافع آلية ثقيلة، أسلحة حقيقية. لم تكن النقود عقبة قط: كم تريد. 50 مليون دولار، 100 مليون دولار ـ لا مشكلة. لكن الأسلحة الثقيلة كان العثور عليها صعبا: الأتراك ـ ولولاهم لما بدأت هذه الثورة ـ كانوا يريدون من الأمريكان ضوءا أخضر قبل أن يسمحوا لنا بشحن الأسلحة. كان علينا إقناع سعد الحريري، ابن رفيق الحريري ورئيس الوزراء السابق، بالذهاب للضغط على السعوديين، بأن يقول لهم: "لقد تخليتم عن سنة العراق فخسرتم بلدا لحساب إيران. إذا كررتم نفس الفعلة فلن تخسروا سوريا فقط، بل لبنان معها أيضا". وكانت الفكرة أن السعوديين بدورهم سيضغطون على الأمريكان لإعطاء الأتراك الضوء الأخضر لإدخال أسلحة حقيقية إلى البلاد".

وهكذا فجأة، بينما كانت الثورة على الأرض لم تزل في أيدي جماعات صغيرة من المتمردين والنشطاء، بدأت مجموعة من المصالح الخارجية في التآمر لتوجيه الأحداث بطرق مواتية لها. فكان هناك السعوديون، الذين لم يرق لهم بشار قط لكنهم يخشون مزيدا من الفوضى في الشرق الأوسط. والقطريون الذين يضعون أنفسهم في صدارة ثورات الربيع العربي، باستخدام شبكاتهم التلفزيونية مرهوبة الجانب لحشد التأييد، وثروتهم المهولة لتمويل شحنات الأسلحة غير المشروعة إلى الليبيين. وبالطبع كان هناك الفرنسيون والأمريكان.

"بارك الأمريكان الأمر"، كما قال أبو عبد الله، "وتجمع كافة اللاعبين في غرفة للعمليات. كان بها القطريون والسعوديون والأتراك والحريري". وبحكمتهم اللانهائية قرر اللاعبون وضع الغرفة ـ المعروفة بغرفة التسليح أو غرفة اسطنبول، على اسم المدينة التي تقع فيها ـ أمانة في يد سياسي لبناني باسم عقاب صقر، وهو عضو في حزب الحريري، يراه الجميع مستبدا بالقرار ومثيرا للانقسام. كانت الخطة تقضي بتكوين مجالس عسكرية يقودها ويهيمن عليها منشقون عن الجيش السوري ـ وهذا بغرض ترضية الأمريكان، الذين انتابهم القلق من النفوذ المتصاعد للإسلاميين. وكان المفترض أن تتفق كافة الجماعات المحاربة في النهاية على الائتمار بأمر المجالس العسكرية لأنها مصدر السلاح الرئيسي.

وفي البداية بدت الخطة وكأنها تحقق نجاحا. مع اقتراب الصيف ظهرت مجالس عسكرية في حلب وحمص وإدلب ودير الزور، والتحقت بها بعض الكتائب والفصائل الكبرى. وبدأت أسلحة أفضل ـ وإن لم تكن مضادات الدبابات والطائرات المتطورة التي طلبها المتمردون ـ تدخل سوريا من تركيا. حتى تلك النقطة كانت معظم الأسلحة المهربة من تركيا تأتي في شحنات صغيرة على ظهور الخيل أو محمولة بأيدي الوسطاء أو المحاربين أنفسهم، لكن تلك الشحنات الجديدة كانت هائلة الحجم، محمولة على شاحنات. وظل العراق أكبر مورد منفرد، كميراث لثلاثة عقود من الحرب، لكن أكثر الذخيرة العراقية كانت رديئة النوعية، بسبب دفنها في الرمال طوال أعوام. وهكذا تم استقبال الشحنات الجديدة بلهفة.

في مدينة دير الزور في مطلع الصيف، جلست مع ضابط التسليح الرئيسي للمجلس العسكري، الذي كان قد حول غرفة نومه إلى ترسانة. فشاهدته وهو يفتح حقائب السفر ويوزع مدافع الآر بي جيه على مقاتليه، بصواريخ جديدة تماما في أغلفتها البلاستيكية، مع بنادق نمساوية (فائضة أو مجددة) وقنابل يدوية سويسرية وبنادق قناصة أسترالية ـ والقائمة طويلة.

إلا أن الخطة، بعد أسابيع قليلة، بدأت تتهاوى. في دير الزور اتهم أحد المنشقين عن الجيش المجلس العسكري بأنه تحت هيمنة قبيلة وقرية واحدة. فأقام مجلسا منافسا. وفي إدلب وحمص كانت النظرة السائدة للمجلس هي أنه مفرط الضعف، مع تنامي نفوذ الكتائب المنافسة. كما اتهمت غرفة اسطنبول بالمحاباة. بحلول منتصف يوليو لم يبد أن ثمة مجلسا يعمل إلا في حلب، وكان المتمردون يزحفون على المدينة.

بعد أسبوعين من القتال سيطر المتمردون على أجزاء كبيرة من حلب، لكنهم سرعان ما تعرضوا لانتكاسة خطيرة في منطقة صلاح الدين. توقف مرور شحنات الأسلحة في سبتمبر. عند مروري من هناك كانت المناوشات لم تزل دائرة على عشرات الجبهات التي تقطع المدنية، والقصف والغارات الجوية تدك البنايات السكنية الخرسانية بلا رحمة. كان الجو حارا وخانقا، بنسمات متفرقة تحمل رائحة الموت والقمامة المتحللة، وتهز الستائر في النوافذ المحطمة.

قبيل الغسق عادت طائرة كانت تحوم في الجو طوال ساعات، ولم تبتعد إلا لوهلة قصيرة بعد أن أهدر المتمردون ذخيرتهم الثمينة عليها، عادت بعزيمة متجددة. ومع كل دورة كان المتمردون يهرعون للاحتماء بسواتر وهمية: دغلة، شجرة، منزل ـ لا شيء من هذا يمكن أن يمنع قنبلة، لكنه يعطي على الأقل شعورا بالحماية. كانت الطائرة تحوم ثم تنقض وتطلق قذيفة سوداء، ثم تحلق من جديد في منحنى رشيق وكأنها راقصة. وتختفي القذيفة خلف أحد المباني. في البداية سحابة ـ بنية وسوداء ورمادية ـ ثم انفجار راعد. وتمر الطائرة فوق الرؤوس ثم تبتعد.

كان هناك ضابطان من أعضاء مجلس حلب العسكري يؤمنان الجبهة. النقيب حسام ـ واسمه الحركي أبو محمد ـ كان مستديرا وطويلا ودائم الضحك. وكان يقود سيارة قديمة محملة بالذخيرة، لتنسيق الهجمات وإمداد المقاتلين بطول أحد قطاعات الشارع. أما صديقه مصباح، أو أبو حسين، فكان قصيرا ومتوترا. كان يهرع من مناوشة إلى أخرى، ويقود الرجال عبر أنفاق محفورة تحت العمارات السكنية، منتقلا عبر غرف النوم والمطابخ، لاختيار مواقع خلف ستائر الدانتيللا لقنص جنود الحكومة.

قال حسام: "قبل دخول حلب وعدونا بالذخيرة. قالوا لنا أن نبدأ القتال هنا وسوف يمدوننا بالدعم. حسنا، لقد حصلنا على بعضه". كان النقيب، مثل صيدلي ريفي يوزع أقراصه الثمينة في أغلفة فردية، ينفذ مهام وظيفته الشاقة بحرص وانتباه دقيق. وكان احتياطيه من الذخيرة، الذي يجب أن يخدم الجبهة كلها، قد تضاءل إلى ألف طلقة كلاشنيكوف و6 صواريخ آر بي جيه، والمقاتلون يحاصرونه: فهم بحاجة للذخيرة وهو لا يملك منها شيئا.

كان قد حضر مؤخرا اجتماعا مع بقية قادة حلب، وكانت الصدوع بين المجالس العسكرية والكتائب قد بدأت تتسع. فقال: "هاجم الإسلاميون المجالس في الاجتماع، فهم مغتاظون من سيطرة الضباط على الذخيرة الجديدة. يظنون أننا نريد إنشاء حكم عسكري، ويعتبروننا كفاراً لأننا أيدنا النظام ذات مرة".

وقال صديقه مصباح: " هذه أمة علمانية، وهم يريدون إعادتنا إلى أيام الخلافة".

بعد أسبوع قُتل مصباح، وتبخر ما أمكنه الحصول عليه من ذخائر، وزادت شكاوى الرجال أكثر من أي وقت سبق، فقرر حسام الرحيل شمالا للبحث عن قادة مجلس حلب العسكري كي يسألهم عن الذخيرة الموعودة. قاد حسام سيارته لعدة ساعات وسط حقول الهيش والقرى، مقتربا من الحدود التركية، فوصل إلى فيللا فاخرة بجدران بيضاء وحمام سباحة كبير واقتيد إلى الداخل. كانت الأرضيات الرخامية باردة ونظيفة. والثلاجة محملة باللحوم والفاكهة بل وكعكة آيس كريم. كان بضعة صحفيين، فرنسيون وعرب، يتسكعون في البهو الرخامي ويستخدمون الإنترنت اللاسلكي. ربما كان الحر، والموت، وأسابيع القتال على الجبهة، أو ربما كانت هجمة السكر من كعكة الآيس كريم، لكن حسام فقد أعصابه وبدأ يصيح.

"يجب أن تأتوا وتشاهدوا ما يحدث. نحن نموت هناك".

وصل رئيس المجلس، عقيد سابق بزي الجبهة وسترة واقية من حرب فييتنام، ومعه مساعده ومحاسبه، وهو مدرس سابق باسم علي ديبو، يشغل الآن منصب أمين ماليات الترسانة. وتم أخذ حسام على جنب، ووعده بالذخيرة من جديد، وإعادته إلى حلب.

أقلني علي ديبو بسيارته الفاخرة إلى فيللا كبيرة أخرى في قرية قريبة. كانت شاحنة مرسيدس قديمة تقف بالخارج، مغطاة بالمشمع، والمقاتلين يتحلقون تحت شجرة برتقال. وكان هناك اثنان من القادة ينتظران مقابلة علي، الذي لم يعد الآن التابع الوديع الذي كانه في حضرة رئيس المجلس، بل اتخذ سمت القائد الأعلى للمؤمنين، فاستجوب أحد الرجلين: "لماذا تحتاجون إلى كل هذه الذخيرة؟" لكنه وقع الأوراق الضرورية وبدأ الرجال تحت شجرة البرتقال يفرغون صناديق الذخيرة من الشاحنة على شاحنة بيك-أب منتظرة. كانت الشاحنة الكبيرة ترسانة المجلس المتنقلة، وبها 450 ألف دفعة من الرصاص ومئات من صواريخ الآر بي جيه.

والتفت علي ديبو إلى ملتمس آخر. "لا أريد منك سوى مقطع فيديو قصير يمكن نشره على يوتيوب، يذكر اسمك ووحدتك وانتماءك إلى مجلس حلب العسكري. وبعدها يمكنك أن تفعل ما يحلو لك. أريد أن أثبت للأمريكان أن هناك وحدات تنضم إلى المجلس. لقد قابلت أمريكيين بالأمس وقالا لي إننا لن نحصل على أسلحة متطورة حتى نثبت اتحادنا تحت قيادة ضباط المجالس العسكرية. صور الفيديو فقط، ودع الباقي لي".

بعد أشهر زرت حسام. كان قد اكتشف أن المدرس السابق كان يدير نشاطا لحسابه الخاص، فيختلس الأسلحة المخصصة للقوات على الجبهة ويشتغلها لبناء قاعدة خاصة به من الموالين. وكانت مسامير معدنية تبرز من ساقيه: بعد عودته إلى حلب بوقت قصير انقلبت سيارته وهو يحاول الفرار من قصف جوي، فقتل أحد أقرب أصدقائه ـ بل إن معظم أصدقائه الآن كانوا إما موتى أو مصابين بجروح جسيمة. "كان علي ديبو يشيد إقطاعيته الخاصة، ويستغل الذخيرة المخصصة لحلب للتودد إلى قادة آخرين". وقال إن المجلس العسكري الآن مجرد ميليشيا وسط الكتائب المتناحرة. "المشكلة هي أنهم كلما أقاموا مجلسا للإشراف على المجهود الحربي، تحول المجلس إلى ميليشيا. لا يمكنهم التمييز بين مصالحهم الشخصية ومصالح الأمة".

في نوفمبر الماضي، تحت ضغط الأمريكان، وبوعود بتمويل أكبر وأسلحة أكثر من بلدان الخليج، اجتمعت كافة فصائل المعارضة في الدوحة، وتم إنشاء مجلس جديد يدعى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. وتحت راية هذا الائتلاف كان يفترض بهيكل قيادة عسكرية جديد أن يضم كافة الجماعات المقاتلة، والقادة داخل البلاد وخارجها. لكن تدفق الأسلحة الموعود لم يتحقق قط: كانت هناك كميات قليلة من الذخائر، ولكن بدون شحنات ذات بال. وظلت الأسلحة القادمة فقط هي تلك القادمة من المهربين العراقيين وأحيانا الأتراك.

كنت أقف مع أبو عبد الله على تل موحل لا يبعد كثيرا عن الحدود التركية. بالقرب منا كان ثمة معسكر مرتجل للاجئين، ومياه المجاري تتسرب بين الخيام، وأطفال يرتعدون أمام شاحنة مياه، حيث كانوا يلعبون بالأواني البراقة التي توزعها إحدى وكالات الإغاثة. وضعها بعضهم على الرؤوس كالخوذات وجلس آخرون فوقها. كان السور الذي يفصلنا عن تركيا قد انهار؛ وعربتا جيب تابعتان للجيش التركي تهدران على الطريق جيئة وذهابا.

أشار أبو عبد الله إلى نقطة عسكرية تركية على الجهة الأخرى من التل. "هنا كنا نتولى تسليم الشحنات: يجلبونها إلى النقطة ونتولى الأمر من هناك، لكننا لا نحصل الآن على أكثر من 10 أو 15 ألف دفعة أسبوعيا. وهذا لا شيء. كان العراق المورد الرئيسي، لكننا لا نستطيع الحصول على شيء ذي بال من هناك أيضاً. أرسلت أشخاصا يستطلعون طوال أسابيع، ولم نجد سوى مدفع مضاد للطائرات".

بعد يأسه من الأتراك وغرفة تسليحهم، تحول أبو عبد الله وأصدقاؤه إلى الليبيين. فليبيا قوة ثورية متحمسة وسوق هائلة للسلاح في وقت واحد. "في العراق نشتري عددا معينا من الطلقات، أما في ليبيا فهم يبيعونها بالوزن، بالطن، وبرخص التراب. لكننا لا نستطيع شحنها بحرا. هناك 13 دولة تتحكم في مياه المتوسط ونحتاج إلى إذن منها جميعا أو من الأمريكان. ولذا ينقل القطريون السلاح بالطائرات إلى الدوحة، ثم يشحنونه من تركيا".

قدنا السيارة بطول الحدود بحثا عن مكان للعبور، لكننا توقفنا بطريق الخطأ أمام البوابة الخطأ. وظهر رجل ملتح بسترة عسكرية يحمل كلاشنيكوف، وأشار لنا كي ندخل بمصباحه اليدوي، ثم ظهر رجل أكبر سنا وأمرنا بالتوقف.

قال أبو عبد الله: "نريد العبور إلى تركيا".

فقال الكهل بعربية ثقيلة اللكنة: "لا يمكنكما هذا، هذه ممتلكات خاصة". كانت هناك خلفه ثلاثة خيام وأقمشة لنصب المزيد. وقال بلهجة مهذبة ولكنها حاسمة: "يجب أن ترحلا على الفور". كان هذا المعسكر، المقام على الحدود التركية مباشرة، مخصصا للجهاديين الأجانب ـ الوحيدين، كما اشتكى أبو عبد الله، الذين يحصلون على المال والمعدات هذه الأيام. كان حكيم المطيري، الداعية السلفي الكويتي، يرسل لهم ملايين الدولارات. قال أبو عبد الله: "واجهته في أحد الاجتماعات قبل أسابيع قليلة، وقلت له إنك تختطف ثورتنا. الجهاديون يشترون السلاح والذخيرة من الوحدات الأخرى. ليست لديهم مشاكل في النقود".

في أواخر يناير قابلت أحد أصدقاء أبو عبد الله؛ كان تاجرا ثريا ذات يوم، لكنه شاهد ثروته تتناقص ونشاطه كله يتوقف. كانت شفتاه ترتعدان غضبا وظل يخبط المائدة بقبضته.

"لماذا يفعل الأمريكان هذا بنا؟ قالوا إنهم لن يرسلوا لنا السلاح حتى نتحد. وهكذا اتحدنا في الدوحة، فما عذرهم الآن؟ يقولون إن الجهاديين هم السبب، لكن الجهاديين هم الذين يتقدمون. أبو عبد الله مدين بـ400 ألف دولار ولم يعد هناك من يرسل له المال. كل شيء يذهب للجهاديين. لقد اشتروا لتوهم معسكرا عسكريا سابقا من كتيبة كانت تحارب في صف الحكومة. ذهبوا إليهم وأعطوهم لا أدري كم مليونا واشتروا المعسكر. ربما يجدر بنا جميعا التحول إلى جهاديين. ربما نحصل عندئذ على المال والدعم".