Follow me on Twitter

الاثنين، 20 مارس 2017

بالطو ماما

كأننا على المسرح.

ينفرج ستار الذكرى عن مشهد مضاء بقوة الحنين وحده، يسطع على بؤرته نور كثيف ومركّز، وهاج ومكتوم معاً، نور كأنه ليس من هذا العالم، وهو كل ما يبقى لنا من العالم حقا، فيما تغيب أركانه في الظلال، أشبه بلوحة لرمبرانت. ضوء الذاكرة المعتم. كيارُسكورو.

كنا في أواخر مارس، وأواخر السبعينات، وقد بدأ اليوم ربيعياً دافئ النسمات، سماوي الزرقة، كما يندر أن نشهد الربيع في قاهرة أيامنا هذه الشعثاء المترامية المتروكة ـ بما يشبه اليأس ـ لغبارها وأدران قذاها الذي لا يني يتراكم تحت قشرة سماء رمادية كالحة كأنها تتستر على جمرة انطفأت وماتت وبقيت تنفث صهدها الرازح الوخيم. أذّن العصر منذ سويعات، واقترب المغرب، وتوفّزت متحمسا حين قالت لي أن ألبس لأننا سنخرج. سنذهب إلى المحامي، الذي يتولى عن أبي قضية ميراث وأطيان، في مكتبه في تلك المنطقة الجديدة البعيدة صعبة المواصلات المسماة بالمهندسين. ولأن أبي ليس هنا، ليس في مصر كلها، ولأنها ستقابل رجلا غريباً ولو في مكتبه، ولأنها قد تتأخر، قد تعود بعد أن تظلم السماء، فإن عليها أن تصطحب معها رجلها الآخر، الذي هو أنا، ابنها الأكبر، الواقف على عتبة المراهقة، لكنه أطول منها بسنتيمترات قليلة، هل كنت في الثالثة عشرة أم الرابعة عشرة؟ هل كان عيد الأم قد جاء ومضى، أم لم يأت بعد؟ هل يأتي عيد الأم أبدا؟

يضطرب تيار الذكرى ويختلط، أجوس في أطراف المشهد المكتنفة بالظلال فلا ينفذ بصري فيها، كأنها قُدت من مادة مقاومة للنظر. فلعله من عمل الذاكرة أن تستعين بالمخيلة، وأن يتحول كيارسكورو رمبرانت، شيئا فشيئاً، إلى صفاء لوحة من مونيه المتأخر، يسبح في إنارة رائقة ورقراقة، يتشربها كل شيء.

لنقل، إذن، إنني كنت في الرابعة عشرة، أو أكاد، وإنني ابتسمت لنفسي وأنا أرى بعين الخيال قميصي الذي اشتراه لي أبي، المصنوع من قماشة رخية وناعمة، منقوشة بنقاط دقيقة حمراء وزرقاء، على أرضية بيضاء، الذي قررت أنني سألبسه على اللحم، وأترك بعض أزراره العلوية مفتوحة، اثنين على أقل تقدير، ابتسمت وأنا أرى نفسي فيه عربيداً صغيراً ـ وخطيراً بعض الشيء ـ لأذهب به معها في مشوار المهندسين. لأننا لا نلبس الثياب لمجرد ستر العورة، أو اتقاء شر الطبيعة، أو إرضاء الأمهات. نحن نلبس الثياب أيضاً لنصوغ أنفسنا، لنصنع ذواتنا التي نحلم بها، ذواتنا التي نود لها أن تكون. اعترضت هي بالطبع، وقالت إن الشتاء لم ينته تماماً بعد، لكنها لم تتشدد في الاعتراض. كانت تعرف أن شيئا لم يكن ليثنيني ـ عندما يتملكني عناد المراهقين فأركب رأسي ـ عن ارتداء ذلك القميص وحده. على اللحم.

ها هي أمام المرآة الصغيرة ذات الإطار البرونزي المشغول بسَرَف الروكوكو تستكمل زينتها قبل أن ننزل: تضع القرط بلؤلؤته الفريدة الصغيرة في أذنها، وعلى إصبعها خاتم تتصدره لؤلؤة كبيرة محفوفة بحاشية من قطع الألماس ـ الصناعي ـ الصغيرة البراقة المتألقة بأضواء مشعة معكوسة من نجفة الصالة/السفرة قبل ردهة المدخل مباشرة، وحول عنقها ياقة البلوزة الحريرية البسيطة كأنها قميص رجالي، بياضها لؤلؤي شاهق، ومن ذيل البالطو يبرز شريط رفيع من حافة الجونلة الاسطوانية المستقيمة الكحلية الغامقة التي تقف تحت الركبة بقليل ـ الجونلة (gonnella تصغير gonna الإيطالية) هي المصطلح الشائع الآن، في أواخر السبعينات، وإن كانت الجيبة (من jupe الفرنسية) تلحق به في اطراد لتسبقه في الشيوع لاحقاً، أما skirt الإنجليزية فلم تنل حظ الإيطالية والفرنسية قط لأنه فيما كانت الإنجليزية تنتزع مكانة اللغة الأجنبية الأولى (أهي حقا أجنبية؟ غريبة كل الغربة، كالمرأة التي لا يحل لنا الاختلاء بها؟)، كان البنطلون ينتزع لنفسه المكانة نفسها على أجساد بناتنا (ومنهن بنتي، التي تكاد لا تلبس الجيبة أبداً) بحيث لم يعد للزي نفسه، ولا، بالتبعية، للمصطلح الدال عليه، كبير أهمية، ولهذا ربما امتنع لساننا عن استيعاب التنورة، التي يفترض أنها عربية، أو معربة على أي حال، مع استنكافي وبغضي، بل مقتي، لتلك الكلمة التي تحتبس بداخلها التنور المذكر المتقد بفحيح النار، فكيف لها أن تسمي قطعة الثياب المنسدلة فوق الأخفى والأدق من كنوز الأنوثة الوثيرة؟ أما البالطو ـ والكلمة مأخوذة دون شك من paletot الفرنسية، التي أخذها الفرنسيون عن أصل أبعد هو paltok الإنجليزية الوسطى، لكن أغلب الظن أنها لم تداخل كلامنا إلا بوساطة أو شفاعة من لغة أخرى، لعلها التركية، حيث أن الكلمة الشائعة الدالة على المعطف في الفرنسية وقت استيطانها (القلق، العابر) عندنا لم تكن البالطو وإنما المانطو manteau، على أن مجمع القاهرة أقر استعرابها وقرر أنها تُجمع على بالطوّات أو بلاطيّ ـ أما البالطو الذي ارتدته فوق الجونلة والبلوزة فكان من قماشة صوفية ثقيلة لكنها ناعمة وثمينة وكثيفة الوبرة، بلون أزرق وسطي القيمة بين الملكي والبحاري (أهو البترولي؟)، تعبره بالطول والعرض خطوط رفيعة سوداء تحتجز فيما بينها مربعات ومستطيلات كبيرة ومتراكبة. هل كانت قد فصلته وخاطته لنفسها، مثله مثل غالبية ثيابها؟ هل عكفت على ترابيزة السفرة (عن τραπέζι اليونانية)، بعد أن نشرت فوقها ورقات الباترون المثبتة في القماش بالدبابيس، بعينين مشعتين بالتقصّد والتصميم، وفم مزموم بجدية الاستغراق، والمقص في يدها، تدور به في حركة متقطعة لكنها مُحكمة الانسياب حول حردة الإبط ليصدر ذلك الصوت الهجين الذي يندمج فيه الهسيس المعدني الجاف للنصلين المتصالبين مع الحشرجة العضوية لخيوط القماش وهي تتقطع وتنفصم فيتألف ما ليس له اسم معروف عندي لكنني أتبين فيه وسوسة السين ورغرغة الراء وخشخشة الخاء، كأنه يقول سراخْس؟ تضرب بالمقص مرة بعد مرة بعد مرة، سراخس سراخس سراخس، فإذا بالكم ينفصل، من دوران الكتف إلى حرف الإسورة، ويخرج سليما وكاملا من قطعة القماش المفرودة على ترابيزة السفرة؟ بل ما فصلته وما خاطته. كانت براعتها في التفصيل والخياطة، وأناقتها حين ترتدي ما صنعته لنفسها، مضرب الأمثال ومثار الحسد من صديقاتها وشقيقاتها ومعارفها، لكنها أعطت البالطو لترزي (طرزي؟) تثق فيه، لا لصعوبته عليها ـ فقد فصلت وخاطت فستان زفاف إحدى قريباتنا من بعيد في ليلة واحدة، واحدة بالعدد، من نحو السابعة مساء وحتى قرب الثالثة صباحا، وظلت تنهرنا أنا وأخويّ بعدما سهرنا معها إلى حين ثم بدأنا نتململ ونتشكّى أن غلبنا النعاس، نرجوها أن تترك ما بيدها لتنيمنا، إنقاذا لتلك القريبة من الحرج عندما تعذر عليها التصرف في فستان في اللحظة الأخيرة قبل الفرح. لا لصعوبته عليها إذن وإنما لأن البلاطي تحتاج إلى بطانة حريرية وأزرار مكسوة بالقماشة نفسها وعُرىً كبيرةٍ وما إلى ذلك من حيل الترزية وأسرار صنعتهم، فضلاً عن أن ماكينة خياطتها السنجر القديمة لم تكن لتتحمل ثخانة القماشة السميكة. لعل صورتها وهي تدور بالمقص قد انطبعت في ذهني ـ وسوف يظل صوت المقص يقطع النسيج، سراخس، يبتعثها إلى الأبد ـ حينما كانت تصنع تاييرها الأخير، التايير الصيفي النص كم بالجونلة الكلوش cloche الناقوسية فضفاضة الذيل ونقشة الزهور البرتقالية الصفراء الضخمة المتهدلة على الأرضية سكرية البياض، التايير الصيفي الذي لم تلبسه إلى المستشفى (لأنها ذهبت بثياب البيت) إلا أنهم أخذوه إليها هناك حتى تخرج به، لكنها لم تخرج.

أراها منعكسة في صفحة المرآة وأنا أنظر، أنتظر، على بعد خطوات خلف ظهرها، تشبك في التلبيبة اليسرى لياقة البالطو العريضة ذلك البروش broche (المشبك؟ الدبوس؟) الذي على شكل فيل صغير يرفع خرطومه وإحدى ساقيه الأماميتين بنزق الطفولة ولعبها البرئ، البروش الفالصو (falso من الإيطالية، مرة أخرى) المطلي بلون ذهبي فاتح يشبه الذهب المستورد عيار 18 لكنه بالقطع ليس ذهبا، الذي اقتصدنا ثمنه من مصروفنا، أنا وأخويّ، واخترناه ـ أو اخترته أنا، أنا الكبير، وصادقا هما على اختياري ـ هدية لها في عيد الأم الأسبق، ومع أنها لم تكن تلتفت إلى الفالصو، وحتى الفضة كانت تتعامل معها بتحرز وأنفة، ولا تتحلى بغير الذهب، والبلاتين في أحيان نادرة، إلا أنها لم تتردد مرة في ارتدائه كي ترينا كم تعتز بهديتنا. كانت عين الفيل لؤلؤة دقيقة ناصعة، هي بمثابة الحركة الأخيرة، الثالثة بعد القرط والخاتم ـ أم تراها الرابعة، باحتساب البياض اللؤلؤي لياقة بلوزتها الحريرية المطلة من تحت البالطو؟ ـ من كونشرتو زينتها المتلألئ متراسل النغمات. جاءت عينها في عيني عبر المرآة، وخطر لي أن ثم مغزىً لنظرتها، تريد أن تقول: انظر ماذا ارتديت، انظر كيف احتطت لمفاجآت الطقس. فرددت عليها بهزة من كتفي، تتنصل من قصدها الحقيقي بالتفاف مراوغ، يريد أن يوحي بأن كل هذا التأنق والتزين والتحوط هو شأنكن أنتن معشر النساء، وشأنك أنت بالأحرى من بينهن، لكنه لا يُلزمني، أنا، بشيء. سبقتني إلى باب الشقة وعلى شفتيها ابتسامة لم أعرف أن أقرأها، ومشينا إلى محطة الأتوبيس.

هل يصدق أحد الآن أنه كان يمكن لسيدة هادئة الحُسن، لم يفارقها الشباب بعد، أن تركب وسيلة مواصلات عامة في القاهرة قبل أن تغرب الشمس بقليل، وتعود إلى بيتها بعد أفولها بكثير، بكل هذا الرهف المنمق الأنيق، آمنة مطمئنة وكأنه تصرف عادي لا يثير استغراباً عندها أو عند غيرها؟ أو هل أصدق أنا؟ ومن أنا على كل حال؟ المراهق المتوفز الفرح بدبيب الحياة في عروقه، بحسية حفيف القميص الناعم على جلده، المنتشي بانتصار عناده ورأسه الذي ركبه، أم الكهل ـ العارف؟ الفطن؟ ـ الذي عرك ـ وعركته ـ الحياة، أو حياة ما على الأقل، باطنية أكثر منها ظاهرية، الذي يخط هذه السطور؟ أأنا في هوية معه؟ ولماذا نقول معه؟ هل الهُويّة معية؟ أن نكون معا في تناظر مرصود، يرنو أحدنا إلى الآخر من على ضفتين آخذتين في التباعد، تجري بينهما مياه الوقت، طول الوقت، لا تكف عن الجريان؟ أليست الهوية أن يكون هو هو، وأنت أنت، وأنا أنا؟ فهل أنا هو؟ لعلي ما زلته على نحو من الأنحاء، عنيدا أركب رأسي، وإن بطرق أخرى، أكثر استخفاء واستعصاء على التوصيف. ولعله لم يختزن الذكرى إلا لأجل خاطري أنا، هو، أنا الذي (كان؟) هو، محض تكئة أتعلل بها لأكتب إليك هذه الكتابة، رسالة في زجاجة أرسلتها إلى نفسي عبر عباب ما يقرب من أربعة عقود من عمري وعمر الزمان، أعثر عليها وأفض ختمها اليوم فقط لكي يلهج لساني بالنداء: ماما، ما أحلى جرس اسمك في فمي، وما أعذب وقعه على روحي اليوم بعد سنين طوال (كيف مرت؟) لم أنطق به فيها.

عندما نزلنا من مكتب المحامي كان الجو قد انقلب تماماً. ذابت حرارة النهار في مغيب الشمس، ونشط الهواء البارد يتدافع من حولنا، في شهقة لعلها كانت الأخيرة من ذلك الشتاء، يثير التراب في ذلك الحي الجديد، ويطير بالأوراق الملقاة على الأرض ـ لا مفر منها ـ ويرتفع بياقة قميصي الخفيف الناعم وينسل من تحتها إلى بدني، قارسا، بعد دفء المكتب المقفول. وضعت يديّ في جيوب البنطلون لأمنع نفسي من فركهما الواحدة بالأخرى استجلابا للدفء، وجاهدت أن أضبط رعدة أحسستها تتسلل إلى أطرافي حتى أسير بجوارها راسياً وثقيلاً، وكأنني لا أشعر بالبرد. كنا نمشي نحو الطرف الغربي من جامعة الدول، ناحية بولاق الدكرور، وكانت كثافة البناء هنا، وقتذاك، وارتفاع المباني، أخف كثيرا من طرف الشارع الأخر، وأقل تزاحما وتكتلا بالتأكيد من بقية القاهرة، أو ما كنت أعرفه من القاهرة. وحين رفعت عيني إلى السماء، كما أحب أن أفعل دائماً، أُخذت بانفساحها المفاجئ: أن ثمة أفقاً نتطلع إليه، وأن السماء فوقه شاسعة، صافية السواد، تومض فيها نجوم مبعثرة، وتذرعها سحب نحيلة هفهافة مسننة الحواف، قبل أن تنسد على أيامنا بالكباري الجسيمة المتلوية والعمارات العالية المتلاصقة المتلاحقة. خطونا إلى قلب مخروط من الضوء الأصفر الرائق، ينهمر علينا من أحد أعمدة الصوديوم التي لعلها كانت اختراعاَ جديداً على مدينتنا حينذاك، إضاءته نظيفة مصفّاة، خالية من أثر العكارة التي ستترسب عليه بمرور الزمن، وحانت مني نظرة إليها ـ خاطفة ـ فرأيت على شفتيها ابتسامة ضئيلة وضيقة، بالفم فقط، توترت منها وشعرت بلذعة غضب طفيف، إذ كنت قد بدأت ـ الآن فقط ـ أتعلم تأويل بسمات الأمهات: لا شك وأنها لاحظت ارتعادي من البرد، ومن شأني أن أسمع تقريعها المحتوم لعنادي وإصراري على القميص الخفيف. لكنها قالت لي، بصوت ليس فيه أدنى أثر للتقريع أو حتى العتب، بل إنني سمعت فيه نبرة خفيضة متضاحكة من التباسط وندّية المعابثة: إنت عارف درجة الحرارة الصغرى النهاردة كام؟ حداشر. لم تُزد على هذا، وكانت الابتسامة قد صعدت فورا إلى عينيها، وشملت وجهها كله، ورأيت في نور الشارع الأصفر الصافي أن غضوناً دقيقة ومتوازية تنتظم على جانبي عينيها وحول فمها، وأن شعرها، الذي كانت تصبغه بلون بني مصقول وغني، متعدد الأغوار وفيه حمرة دفينة، أفتح من لونه الأصلي بدرجة أو درجتين، قد بدأت بعض جذوره تبزغ فوق جلد رأسها، شيباء وباهتة. فامتلأ قلبي بالحنان لهذه السيدة الوسيمة الكريمة، ذكية الفؤاد، أبية الروح، ووددت لو استطعت أن أدفع عنها غائلة الزمن. لم أكن أعرف أن "أمنيتي" ستتحقق بعد سنة واحدة وبضعة شهور، وأنها لن تشيخ أبداً، ولن تغيض مياه الشباب من بشرتها الوردية، المشدودة على لحم وجهها القليل، أبداً. هل كانت أبواب السماء مفتوحة؟ تتسمع من خلفها أخفت خلجات نفوسنا، وهي تتقطر من حبات قلوبنا، من قبل حتى أن نعرف كيف نصوغها في كلمات؟ هل للسماء أبواب؟

شردت عني عيناها، نظرتها الآن ساهمة، وخطوتها أسرع قليلا وأوضح عزما، وعلى وجهها تعبير فيه قلق ونفاد صبر. لعلها تبحث ببصرها عن ميكروباص، كالذي بدأ يظهر في شوارعنا، ويتلكأ عند المحطات، على استحياء في البداية، كمنقذ للكثيرين من مهانة الأتوبيس، ليصير فيما بعد وسيلة المواصلات العامة الرئيسية الرسمية في هذه المدينة، ميكروباص نعود به كما أتينا به، كأنما أنبأها حدسها بأن هذه البقعة التي نقف فيها ستتحول مع كر السنوات إلى موقف للباصات ـ الميني والميكرو وكل الأحجام ـ  ومرتع للتكاتك ـ التي تخبّ وتعدو وتنقض وتنثني وتتفلت من كل الاتجاهات كأنها حشرات ضخمة خارقة سقطت على الأرض من الفضاء الخارجي ـ ومحطة للحلقة الأخيرة حتى الآن من سلسلة التطورات التي أحالت نقل الناس، كل هؤلاء الناس، من مكان إلى مكان، طوال ساعات الليل والنهار ـ ليفعلوا ماذا؟ ـ أحالته النشاط الاقتصادي الأول، وربما الأكبر، في القاهرة: عربات السوزوكي الملاكي الڤان التي تحمّل الركاب بالأجرة. الأرجح أنها تفكر في أخويّ الأصغر اللذين تركناهما وحدهما في البيت، اللذين يشغلان بالها بكل تأكيد وتريد أن تطمئن عليهما بأسرع ما يمكن. ولعل في سهومها أيضاً شيء من الحسرة على جوهرة المغرب التي أفلتت منها اليوم بسبب المشوار الاضطراري، رغم حرصها عليها وعلى كل الصلوات، التي لم تكن تغرينا بها إلا بترديد الحديث الشريف: المغرب جوهرة فالتقطوها، بصوتها المريح الهادئ الخالي من التهديد. تحيرت لوهلة: هل أمتعض لانشغالها عني بهذه السرعة، أم أتنفس الصعداء لانتهاء قصة القميص ـ التي كان واضحا الآن أنها انتهت تماما، كأنما لم تكن ـ على خير، بغير عقابيل؟ ثم عرفت، حين رفعت ذراعها اليسرى، بحركة كأنها لاواعية ولاإرادية، وفي عينيها نفس النظرة البعيدة، ذراعها المكسوة بصوف البالطو الناعم الثمين، تحيط بها كتفيّ، تحثني أن أغذ السير معها نحو الميكروباص الذي لمحَته، وتدفئني في الوقت نفسه، تسكّن رعدة المراهق التي لم تزل تسري في بدن كهل تجاوز الخمسين، عرفت معرفة قاطعة ونهائية أن ما كان يفيض عليّ من هاتين العينين، من تحت أهدابهما الطويلة، هو محبة خالصة، غامرة وغير مشروطة، وأنني لن أعرف ماذا أصنع بنفسي إذا سُلبت مني هذه المحبة، أو ما كانت تستسلفه من محبات قليلة، ما أقلها وما أعزها وما كان أفدح فقدانها، مذخورة لي في مقبل الأيام، وأنني ما زلت لا أعرف. 

الخميس، 24 مارس 2016

A Dream

I had a dream. So strange I had to take it down. Although there was not much speech in the dream, the little there was of it was in English, and I felt I had to do it in English.

Suddenly, as happens in dreams, I was in this post-apocalyptic world. And I knew it was that kind of world not by way of any particular, tell-tale signs, but with a knowledge that emanated from the vision itself, and came to me impersonally. A stark knowledge, standing apart, as if a thing in itself.

There had been a sickness. Strange and relentless, it had swept through the world, emptying it of its inhabitants, reluctantly sparing a few of us; perhaps to bear witness.

And there was a building, a high-rise building. We were in the building. It had staircases, elevator shafts, and metallic service stairways. And we were always, all the time, in these in-between spaces that lead to no discernible living-space. It was as if the in-between was the natural condition of our new dispensation, and we didn't even know it was new. Remnants of technology hung and sprawled about, ignored in every sense of the term; nobody knew what they were there for. Elevator shafts had no elevators, and they were not missed.

There was someone who looked like me, albeit with a little bit more hair on top of his head, but he was not me. Didn't feel like me. But there he was, working with serene fury, lips pursed tight, eyes glinting in quiet desperation, like a mad scientist, on something that just might save the world.

And there was a couple; the man, to all intents and purposes, was Brad Pitt. Only he was not the pretty-boy actor, but an ordinary-looking middle-aged man, who cannot even be described as handsome. He was altogether much too human. The woman was visibly older, but he loved her with all of his heart, and was always trying to win her love. Yet she rebuffed him, with a barely-concealed revulsion at his man-breasts.

Suddenly Brad Pitt appeared on a metallic stairway, pulled the plackets of his shirt apart, to reveal his chest. There were tiny surgical scars on the outer sides of each nipple and blotchy bruises around the breasts, now properly manly. He had had breast reduction surgery. The woman let out a squeal of delight, and held him to her tightly, making a strange, mechanical and very orderly noise: tat-tat-tat-tat-tat. He asked her why she was crying. She said she was laughing.

There were children, two or three or four or five of them. One of them stood out, a girl of about eleven or twelve, with a long, innocent and pale face, and that devastatingly bright look of intelligent children, too intelligent for her own good. I felt sorry for her. Mad Scientist came on, beaming with a fierce knowledge. He had completed the thing that just might save the world.
Bright Girl: But will the antibodies hold?
Mad Scientist: Oh, honey. As long as we're not sick, the antibodies are holding.

In the end the children were laughing.


My eyes fluttered open. I was panting, heart thumping. And for a brief moment, while my waking consciousness was flickering on, I felt like I was all of these people, and not quite certain I was me

السبت، 5 مارس 2016

واجب عزاء

نزلت أؤدي واجب عزاء، فتهت.
كنت أعرف أن منزل المهندسين القديم على الدائري قد أغلق، لكنني لم أجرب الجديد من قبل. المسافة من آخر الهرم إلى الدرّاسة طويلة، والطرق تموج بسيارات وميكروباصات وعربات نقل ونصف نقل، وسائقين يقودون وكأن كل لحظة على الطريق هي اختبار، شديد الجدية والجهامة، للرجولة: من ينفذ أولا، من يحتل البقعة التي خلت فجأة أمامك مباشرة أولا، من يتملص ويناور وينقض ويهجم ويمر أولا هو الرجل، ومن يتخلف... دعنا نتعفف عن وصفه صراحة. وأنا يجب أن أصل في الموعد، لا يمكن أن أتأخر.
انحدرت مع المنزل الجديد، الذي لا أعرفه، ولم أجربه، متوقعا بسذاجة طفولية أن يقودني إلى ميدان لبنان بعد دقائق.
انتهى المنزل فوجدت شارعا يقطعه بالعرض، ومن ورائه مطلعا آخر يعيدك ـ فيما أتصور ـ إلى الدائري. لا بد وأن ميدان لبنان في نهاية هذا الشارع إذن، إذا مضيت معه إلى اليمين، أو على الأقل في نهاية شارع يتفرع منه. فلنكمل الطريق ـ ليس هناك اختيار آخر على كل حال.
كان الشارع الطويل، الضيق، الذي لا يزيد عرض الجهة الواحدة منه عن خمسة أمتار بأي حال من الأحوال، يمضي في اتجاهين، مفصولين بجزيرة وسطى، ضيقة جدا، لا تكاد تتسع لوقوف شخص واحد عليها بالورب، والمطبات الصناعية تبرز فجأة من الأرض كل عشرين أو ثلاثين مترا، والناس تعبر من أي مكان، كلما عنّ لهم، دون أن يتجشموا عناء النظر، مجرد النظر، لتبين وجود مركبة متحركة، مقبلة أو مدبرة، من عدمه، والتكاتك ليست لها صلة، أدنى صلة، بالاتجاه المقرر للسير، تداهمك كأنما تجسدت من العدم، من جانبك الأيمن أو الأيسر أو من أمامك، في وجهك هكذا، بثقة تامة في أحقيتها المطلقة في المرور، والعمارات عالية، ضيقة الواجهات، متلاصقة، ليس بينها ثغرة واحدة، ولا فرجة تطل منها السماء، بطول الشارع، مبثوثة في صفحات وجوهها شبابيك كثيرة صغيرة، ضيقة، تتراءى من خلفها أضواء صفراء كابية، مرهقة، توحي بحجرات ضيقة، مكتومة، يتحرك فيها أناس كثيرون، تدب فيهم حياة عنيدة، بل مستميتة، يضجرون من زمتة الجدران فينزلون يجلسون على كراسي مرصوصة، كل عشرين أو ثلاثين مترا، بطول الشارع، في ما يبدو أنها مقاه مرتجلة، تنصب على عجل فوق وتحت الجزيرة الوسطى، وترفع على عجل، والمحلات كثيرة ومتراصة ومتتابعة في إلحاح مجهد، تضيئها إضاءة قوية، بيضاء وصفراء، تناقض إضاءة البيوت الوانية الشحيحة، وتراب، تراب، تراب، عالق في الجو طوال الوقت، ومكوم في أكوام، بطول الشارع، إلى جوار أكوام القمامة والبضاعة والتكاتك والعربات والناس.
كان قد بدأ ينتابني حس بأنني أعرف هذا كله، رأيته كله من قبل، هو بعينه النمط الكابوسي المتكرر، الذي حل على القاهرة منذ زمن بعيد ويرفض أن يفلتها، يمسك بها في قبضته الخانقة المنهومة، فينتزع منها، بأسنانه، في كل يوم، قطعة جديدة. رأيته عند أقاربي في عزبة المفتي، في امبابة، وعند صديقي القديم الذي كنت أحب زيارته أيام الكلية في دار السلام، وفي ما حول المعمل الذي استأجرته، لشهور قليلة، ثم أغلقته ونفضت يدي نهائيا من أي مشروع طبي خاص، منذ زمن بعيد، في مصر القديمة، وهو بلا شك نفس النمط الكابوسي، المتكرر، الذي تسهل رؤيته عن كثب في المرج والألج ومنشية ناصر وعين شمس وحواري الجيزة وامتدادات الهرم وفيصل وغيرها وغيرها، الذي لا يفتأ يزحف، بطيئا وحثيثا، تكاد إذا أرهفت السمع أن تسمع فحيح زحفه الوئيد، على هذه المدينة كلها.
تابعت سيري بين جنبات الكابوس المألوف، المنفر الغليظ، وهو مع ذلك مأنوس وحميم، منتظرا أن يظهر في أية لحظة ما ينبيء عن قرب ميدان لبنان. لكنه لم يظهر قط.
بعد دقائق أحسستها طويلة جدا، ومسافة حسبتها في تقديري ثلاثة أو أربعة كيلومترات، اختفى الشارع ذو الاتجاهين، اختفى تماما بدون مقدمات، لا أعرف كيف، ووجدت نفسي فجأة وسط متسع من الأرض غير المستوية، تتراص فيه الميكروباصات الترامكو البيضاء ـ غير شاهقة البياض ـ في صفوف طويلة، واقفة هكذا كأنها حيوانات بليدة كبيرة الحجم، لا تدري ماذا تفعل بجسومها البدينة، وفي وسط الصفوف فرجة واحدة، واحدة بالعدد، تتسع لسيارة واحدة، أن تمر بحرص شديد، ويقظة تامة، صاحية مفتوحة العينين، من قائدها، كيلا يحتك بأي تكتك أو ميكروباص أو عربة نصف نقل، تريد، هي أيضا، أن تمر من الفرجة نفسها.
استجمعت كل ما تبقى من جهد عصبي عندي، وبدأت أدفع عربتي، بحرص البهلوان على حبل مشدود، عبر الفرجة، وعبرتها، لأجد أمامي طابورا من الميكروباصات، يريد أصحابها المرور، في الاتجاه المعاكس، من الفرجة نفسها.
وبغتة، دفعة واحدة، رأيت نفسي من الخارج ـ أكانت تلك هي خبرة الخروج من البدن التي يُحكى عنها؟ رأيت رجلا تجاوز الخمسين، يغلب البياض على السواد في ما بقي من شعره، يجلس خلف مقود عربته، ويخبط مؤخر رأسه، بيأس مزمجر، في مسند الرأس الذي يعلو كرسيه، في أنين مكتوم يكاد يشفي على النشيج، مرة بعد مرة، يخبط مؤخر رأسه، بيأس مزمجر، وخلف نظارته التي لم يعد يرى بدونها، تقريبا، تلمع دموع، حبيسة، لن تسقط أبدا. فقط لأنه ضل الطريق، في مدينة ضارية التوحش، والاستيحاش، تكرهه ويكرهها، مدينة ميتة، مدينة من تراب، لم يعد له فيها غير تراب الموتى، مدينة تنتظر، دون لهفة، ودون كبير اهتمام، أن تكتنس في ترابها تراب موته، هو. فقط لأنه كان يعرف أنه، في النهاية، سيصل، بطريقة ما، إلى الدراسة، يؤدي واجب العزاء، لأناس كان يهمه أمرهم، أناس ستذكره وجوههم بكل الذين ماتوا عنه، هو، وتركوه لتبريح الحنين. فقط لأنه كان يعرف حاجة أولئك الناس، هم أيضا، إلى المواساة، فقد مات لهم ميت، في نهاية الأمر، وعانوا في نفوسهم، ولو بينهم وبين أنفسهم، ولو بدون أن يفصحوا لأحد ـ ولا لأنفسهم ـ تماما عن الأمر، عانوا في صميم نفوسهم حتمية الموت، ووحشته النهائية التي لا رجعة فيها. فقط لأنه كان يعرف أن عينيه، في النهاية، ستجفان، كما يجف كل شيء، وتنقضي هنيهة الألم الكاوي، المبرح، كما ينقضي كل شيء. 

الجمعة، 22 نوفمبر 2013

مشهد من الأيام الأخيرة: أنا وقعت

كانت الثلاجة معطوبة، من شهور وشهور، يتجمع في قلبها، من موضع مجهول، ماء ثقيل وزلق، يتسرب إلى الأرض كلما فتح أحدنا الباب...

ذهبت أفتحها، بلهوجتي المعتادة، وتعجلي الانتهاء من كل شيء وأي شيء، وفتحتها فعلاً، وكان الباب في يدي، ثم داست قدمي الحافية في بقعة الماء الثقيل، فانزلقت على السيراميك المصقول، والتوت، وانثنى، ببعض الألم، مفصل إبهامها الذي يفضله النقرس على سواه ويهاجمه بشيء من الانتظام...

اختل توازني، بالطبع، ولم تجد يدي الممسكة بباب الثلاجة ما تتشبث به دون السقوط...

فسلمت بقضاء الله، وتركت نفسي للجاذبية، محاذراً فقط أن أبتعد برأسي عن حافة ترابيزة السفرة، الحادة البارزة...

لم تكن الهبدة عنيفة جداً، أو مؤلمة جداً، لكنها، على نحو غامض، آلمتني، وجرحت بداخلي كبرياء طفولية ما، كنت ألملمها وأخفيها عن الأنظار، في فترة تكالب الأمراض والأوجاع عليها، هي...

ولم أملك سوى الصياح، بصوت حاولت أن أجعله مرحاً، لاهياً، غير مبال، بصوت فيه ضحك واستهزاء من الحادثة الضئيلة، المضحكة فعلاً رغم كل شيء: أنا وقعت. 

فأقبلتا، ملهوفتين، جزعتين، تستطلعان أمر ذلك الذي وقع. 

جاءت صغيرتي، حبيبة قلبي وقرة عيني، ووقفت في مواجهتي، تريد أن تنهضني من رقدتي على ظهري، على الأرض، ومدت لي يدها وهي تغالب ضحكها وتكتمه ـ المجرمة!

أما هي فكانت قد تأخرت قليلاً، أثقل المرض خطوها، وجرح العملية الأولى، وخرطوم الدرنأة المتدلي منه. وبينما كنت أنهض من على الأرض، ممسكاً بيد ابنتي، قالت لي، بصوتها الذي أدرك كل شيء، كل ما شعرت به وما احتجت أن أقوله، ولم أقله، بصوتها الذي تخصصه لمخاطبة الرضع والأطفال الصغار، صوتها الذي يقطر حنواً واسترحاماً...

قالت لي: يا حبيبي.

الجمعة، 18 أكتوبر 2013

قاهرة الأضواء

نور كبير .. على مياه كبيرة 

(بيت شعر من والاس ستيفنز ـ ترجمته لنفسي، كما كنت أفعل، ونسيت القصيدة)

أيام زمان، حين كان وحش القاهرة يقبل الترويض، كنت أخرج .. وأمشي

كانت السماء مكشوفة

لا تحجبها عنا طبقات فوق طبقات من التراب والسخام

وكان الهواء شفافا! تصوروا! 

فكان بوسعي تبين أرهف الفروق، وأدنى الاختلافات، بين خصائص النور، ليلاً، في المناطق والأحياء

وصلت يوما إلى تلك المنطقة ـ التي كانت غامضة ـ على تخوم المهندسين، تكاد تلامس الكيتكات لكنها لا تفعل .. هل يسمونها الآن الصحفيين؟ 

وهالتني طبيعة الأضواء : الأضواء هنا مكتملة، مكتفية بذاتها، كل واحد منها يشع كأنما لذاته فقط، لكنه بطريقة ما مأنوس وحميمي، ومعظمها يتخذ ذلك الشكل الأكثر حنوا وأرضية وسط جميع الأشكال الهندسية: الكرة 

بعد تمشية لم تطل كثيرا وصلت إلى الكيتكات، وكان التغير لحظيا؛ فأضواء الكيتكات غلابة، صريحة، عملية و"واقعية" بشكل ما، لكن بينها تآزراً لم أجده حيث كنت لتوي، كأن كل هذه الأنوار تقتسم نوراً واحداً، يشع من كل واحد منها، ومن الجميع في وقت واحد. 

في امبابة، التي لنا فيها بيوت ملك وأقارب، كانت الأنوار أخفت، وأكثر تباعداً .. ولكنها لهذا أفعل وأوضح. كانت أنوار امبابة على قدر الحاجة فقط، ولكن هذا التقشف كان يمنحها شاعرية تغيب عن عابدين، حيث تربيت ـ رغم أن امبابة ليست شاعرية .. على الإطلاق

كان الضوء في عابدين ـ ووسط البلد، بالامتداد ـ مسرفاً، وشديد التنوع في الألوان والأشكال والأنواع ودرجات السطوع، حتى الابتذال

كان بوسعك اكتشاف هذه الفروق، بأوضح ما تكون، على النيل ـ الضوء الكبير على المياه الكبيرة ـ فما يتلألأ على الماء عند الكيتكات غير ما يتوهج على كورنيش ماسبيرو وقصر النيل وبداية وسط البلد، ويختلف عما يتماوج ـ لا يكاد يبين ـ على مياه المنيل والروضة، مثلا

أما اليوم .. 

اليوم أصبح الهواء في القاهرة حجابا، يغلف الأضواء ويغلف ـ بل يغلق ـ كل شيء

وصارت السماء بعيدة


الأحد، 5 مايو 2013

وكأن المحبة فرض كفاية

خلوني مع نفسي ... شوقي زاد حنية، من اللهفة لعيناهم
وأراجع ذكريات أمسي، وماضي ما حصل ليا، بعد أن عز لقياهم
من الود قلبي يسقاهم...
عساهم يذكروا ودي عساهم، في الروحات والجاية، معاهم صادق النية

نشرت هذه الأغنية الجميلة على ساوند كلاود، وسمعتها مرات ومرات، وفكرت...
لأنها ذكرتني بما لعلني لم أنسه قط، بما تكنه نفسي عن العربية وتراثها.
فأنا أعتقد مخلصا أن العربية خير لغة تعبر عن الحب، وتراثها من هذا التعبير غني بما لا يقاس ولا يقارن. أو لنقل...المحبة. 
أهناك لغة أخرى تشتق من أصل واحد كلمتين كالحب والمحبة، بينهما كل هذه القربى، وكل هذه الفروق الدقيقة ورهافة الظلال؟ 
أهناك لغة أخرى يتغنى أهلها بالحب كما نفعل؟ 
أهناك لغة أخرى تصف الحب الإلهي بوجده اللاعج، المسلّم مع ذلك بحتمية الانفصال، كما عند ابن الفارض؟ أحبك حبين ـ فرقة ابن عربي
أو تصف الحب الإلهي شطحاً وتمرداً على الانفصال كما عند الحلاج؟ 

في الأغنية الأولى، ليس ثمة مجاز، أو بالكاد...فكلمات المحبة في العربية شعرية بذاتها، دون استعارة أو تكنية. 

في لغتنا كثير كثير من الحب. أتراه أكثر مما ينبغي؟ 
ألا نستشعر كلنا في حياتنا العامة، في عيشنا المشترك، افتقادا فادحا للمحبة؟ 
كأننا نحب ـ في اللغة، بل باللغة ـ كي نتخفف من أعباء المحبة. 
وكأن المحبة فرض عين، تؤديه عنا أشعارنا وأغانينا، فلا يبقى بين أيدينا منها بعد ذلك إلا ما يكفي ـ بالكاد ـ لأنفسنا ولـ"عشيرتنا" الأقربين. 

وليس في هذه الفكرة جديد، ولا هي فتح غير مسبوق في الدراسات الثقافية أو علم اجتماع اللغة أو ما شئت من المباحث المستحدثة في علوم الإنسان. قيل عن شيكسبير، مثلا، إنه، بطغيان عبقريته، استنزف الإنجليزية وأجدب قرائحها قرنين من الزمان...لم يجد القوم بعده ما يقال، ببساطة. وهذا مقارنة، مثلا، بالفرنسية، التي ظلت تنتج كبريات الأعمال في كل القوالب قرنا بعد قرن، لأنها خلت من "شيكسبير"ها. 

المحبة إذن عبء، تحمله عنا لغتنا.

عسى أن نحمله، نحن، يوما، عنها.

السبت، 16 فبراير 2013

مجرد ترجمة

من زمان ما جتش هنا...
 حصلت حاجات كتير من ساعة آخر مرة، وبعدين في آخر الصيف اللى فات حصلت الكارثة اللى شقلبت حياتى، واللى لسة مش قادر أتكلم عليها...ويمكن عمرى ما هاقدر. 

المهم إنى عترت على المقالة الجاية دى في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" ـ العدد الأخير، وآدى اللنك بتاعتها: http://www.lrb.co.uk/v35/n04/ghaith-abdul-ahad/how-to-start-a-battalion-in-five-easy-lessons. وشديتنى جدا، خصوصا إن الكاتب عربي، وصممت أترجمها وانشرها...حسيت إن البعض ممكن يلاقى فيها إجابات لبعض الأسئلة، وأى حد يقراها هيجدها ـ على أقل تقدير ـ "مشوقة". وها هي ترجمتى ـ الحرفية بقدر الإمكان ـ للمقالة. 

كيف تنشئ كتيبة (في خمسة دروس سهلة)
غيث عبد الأحد في تقرير من سوريا

في غرفة المعيشة الضيقة بشقة جار عليها الزمان قريبة من خط الجبهة في حلب، كان اثنان من المتمردين يجلسان أحدهما بإزاء الآخر. كان الجالس على اليسار ممتلئأً عريض المنكبين، بلحية مشذبة تبدو وكأنها مرسومة بقلم رصاص رفيع على عنقه ووجنتيه. كان قميصه وسرواله مكويين بعناية، كما كان يرتدي زيا عسكريا جديدا بشوكه ـ من النوع التركي باهظ الثمن، لا التقليد السوري الرخيص. أما المتمرد الجالس أمامه فكان أصغر سنا، نحيلاً ومتعباً، وكانت يداه متسختين، وسرواله ملطخا بالطين والشحوم.

كانت الشقة فيما مضى ملك امرأة عجوز، وآثار الحياة المنزلية التي انتهى وجودها منذ زمن طويل متناثرة حول الغرفة ومختلطة بممتلكات الشاغلين الجدد. كانت منفضة سجائر من الصدف تجلس بجوار كومة من أجهزة اللاسلكي، وتماثيل صغيرة من الخزف تقف فوق التلفزيون بجوار علبة خراطيش، والبنادق والذخيرة ترقد على الكراسي الخشبية المتداعية، وعلى الحائط تقويم بمناظر طبيعية حالت ألوانها. في غرفة النوم المجاورة كانت الثياب مكومة على السرير بجوار صناديق الذخيرة. كان المتمرد الممتلئ متململا، يتعجل الانتهاء مما جاء ليقوله والرحيل سريعا. أما الآخر فقد بدا كرجل ينتظر اكتمال فصول كارثة.

إلا أنهما، كزوجين يحاولان استكمال إجراءات الطلاق بتحضر، أنفقا وقتا طويلا على المجاملات: فسأل كل منهما الآخر عن قريته، وامتدح شجاعة قومه وعزيمتهم. في الخارج كان مدفع رشاش ينطلق دون هوادة في الشارع، لا يقطعه سوى الهدير المكتوم لمدافع الهاون.

وأخيرا قال الرجل الممتلئ: "سآخذ أبناء عمومتي وأرحل بعيدا عن الجبهة".

فانتحب المتمرد الشاب: "لماذا؟"، وكأن إحدى دانات الهاون قد أصابت رأسه. "هل ارتكبنا أي خطأ؟ ألم نطعمكم كما يجب؟ ألم يحصلوا على حصصهم اليومية؟ إننا نقسم أي ذخيرة تطالها أيدينا بالتساوي: قل لي فيم أخطأنا".

"كلا، كلا، لا خطأ هنالك ـ لكن يبدو أنه لا يوجد عمل هنا".

"لكن هذا موقع دفاعي مهم"، يناشده المتمرد الشاب. "حلب كلها تعتمد على هذا التل. إذا رحلتم ستنكشف اثنتان من نقاط الجبهة. سيتمكنون  من الإحاطة بنا".

"أنا على يقين من تكفلك بالأمر. بارك الله رجالك، إنهم أهل لها".

"أين ستذهبون؟"

"هناك رجل طيب، فاعل خير ـ من بلدتنا لكنه يعيش في الخليج ـ قال إنه مستعد لتمويل كتيبتي الجديدة. ويقول إنه سيدفع لنا ثمن الذخيرة وسيكون من حقنا الاحتفاظ بغنائم القتال كلها. ما علينا سوى تزويده بمقاطع الفيديو".

"لكن لماذا يفعل هذا؟ علام سيحصل في المقابل؟"

"إنه يريد مرضاة الله، ويريد منا مقاطع فيديو لكافة عملياتنا. هذا كل شيء ـ مقاطع فيديو على اليوتيوب فقط".

"حتى يحصل على المزيد من المال".

"هذا شأنه هو".

أنفق الاثنان بعض الوقت على المجاملات، لكن الطلاق كان قد وقع. خرج الرجل الممتلئ. وكان في انتظاره في البرد نصف دستة من الرجال، شبابا، مخلصين، فتية ريفيين معهم أربعة بنادق. كانت سجائرهم تتوهج في العتمة وهم يسيرون خلف ابن عمهم، قائدهم الجديد، بسرواله وقميصه المكويين، الذي وعدهم بطعام أفضل، وذخيرة لا تنفد، والنصر. وهكذا تشكلت كتيبة جديدة، كتيبة أخرى من مئات الكتائب التي تخوض حرب التمرد والثورة على نظام بشار الأسد.

لطالما أقبلنا بشهية طيبة، نحن أهل الشرق الأوسط، على الانقسام. يعزوه البعض إلى الفردية، ويلوم البعض طبيعة تطورنا السياسي أو قبليتنا. بل إن البعض يلوم المناخ. أما نحن فنسميه "التشرذم"، ونمقته: ونعتبره السبب الرئيس في كل خساراتنا وهزائمنا، من الأندلس إلى فلسطين. ومع ذلك فإننا نعشقه ونستدفئ به ونتفوق فيه، وإذا كنا نظهر التقدير لشيء فإننا نظهره للفصيل الذي ينقسم إلى فصائل أصغر. لكن حتى بمقياس الحروب الأهلية السابقة في الشرق الأوسط، يبدو أن السوريين قد بلغوا ذرى جديدة. فالفلسطينيون، رغم كل شيء، كان لديهم في عز مجدهم نحو دستة فصائل أو نحوها، واللبنانيون، باركهم الله، مدعين أن الأيديولوجيا هي التي فرقت بينهم، لم يتجاوزوا الثلاثين فصيلاً قط.

في اسطنبول سألت صحفيا وناشطا سوريا عن سبب تعدد الكتائب هكذا، فضحك وقال، "لأننا سوريون". ثم مضى يحكي لي حكاية سمعتها مرات عديدة من قبل. "حين قام الرئيس السوري، زعيم العسكر الحاكمين وقتها، بالتوقيع على اتفاقية الوحدة مع ناصر، التي أسلمت البلد للمصريين فعليا وجردته من لقب الرئيس، ناول الورقة لناصر قائلا: لقد تنازلت عن دوري كرئيس لكنني أعطيك بلدا به 4 مليون رئيس".

طوال عقود ظلت الدكتاتورية السورية تعمل لقولبة الشعب على الخضوع: كل منبر، وكل منفذ إعلامي، وكل كتاب مدرسي، كانت ترسل نفس الرسالة، أن على الشعب أن يخضع للحاكم. في سوريا (كما في العراق ومصر وبقية البلدان، وإن بطرق مختلفة) كان أصحاب السلطة ـ من الرئيس وحتى الشرطي، من أعلى الكوادر الحزبية وحتى أصغر موظفي الحكومة ـ يمارسونها على كل جانب من جوانب حياة الناس. كنت تقضي حياتك في محاولة لتجنب الإذلال ـ ناهيك عن الاحتجاز والتعذيب والاختفاء ـ على يد أصحاب السلطة، بينما تقوم في نفس الوقت بالتذلل إليهم ورشوتهم، ومناشدتهم لإعطائك ما تحتاج إليه: خطا هاتفيا، أو جواز سفر، أو مقعدا في الجامعة لابنك. وهكذا حينما انهارت هذه النظم التسلطية، انفجر شيء ما داخل الناس، حس بالفردية طال قمعه. لماذا أستسلم لسلطتك كقائد بينما أستطيع أن أقود نفسي وأحارب حربي التمردية بنفسي؟ كثير من الكتائب المبثوثة في أنحاء الريف السوري تتكون من رجل واحد على صلة بممول، مع قلة من أبناء عمومته وعشيرته. ويتحول هؤلاء إلى جماعات مقاتلة متجولة، تنتقل من معركة إلى أخرى، مستميتة على التمويل والقتال وما يعقبه من غنائم.

رسميا ـ أو هذا على الأقل ما يود لنا الكثيرون أن نعتقده ـ تعد كافة الكتائب جزءا من الجيش السوري الحر. لكن منذ بداية الانتفاضة في مارس 2011، لم يتمكن الجيش السوري الحر قط من التحول إلى منظمة لها هيكل قيادي مركزي يتيح لها تنسيق الهجمات وتحريك الوحدات على الأرض. حتى وقت قريب كان العقيد رياض الأسعد، القائد الاسمي للجيش السوري الحر، ورفاقه المنشقون عن الجيش السوري، محتجزين في "معسكر الضباط"، وهو معسكر خاص للاجئين في جنوب تركيا ـ لحمايتهم، كما يقول الأتراك. كانت كافة الاجتماعات والمقابلات مع العقيد المنشق تمر عبر المخابرات التركية. وقرب نهاية العام الماضي أعلن الجيش السوري الحر أنه نقل مقر قيادته إلى الجانب السوري من الحدود، في محاولة لإثبات أهميته. لكن الكتائب لم تزل تتشكل على يد قادة يعملون ويقاتلون بمبادراتهم الشخصية في أرجاء سوريا، ويسلحون أنفسهم عبر قنوات عديدة ومختلفة تنفرد بها بلداتهم وقراهم. بالنسبة لهؤلاء لا يزيد العقيد عن "رأس متكلم" وألعوبة في أيدي الأتراك، ولا يزيد الجيش السوري الحر عن عنوان. ثم نشأت مشكلة أخرى حين بدأ ضباط برتب أعلى ينشقون عن الجيش. من الذي يقود الجيش السوري الحر؟ الضباط الذين انشقوا أولا؟ أم الرجال الأعلى رتبة؟ وبدأت تظهر منظمات موازية من الضباط المنشقين، لكن قلة منها كان لها نفوذ حقيقي حيث يكون للنفوذ قيمة.

فكيف إذن تنشئ كتيبة في سوريا؟ أولا، أنت بحاجة للرجال، شباب من الريف على الأرجح، حيث كان فائض العاطلين على مدار القرون يمثل معينا لا ينضب للجيوش وحركات التمرد. أما السلاح فسيجلبه المهربون، ويفضل أن يكون من العراق أو تركيا. كما ستحتاج إلى شخص يعرف كيفية تشغيل الحاسب المحمول و/أو كاميرا الفيديو، ويجيد رفع مقاطع الفيديو على الإنترنت ـ ضرورة لا غنى عنها لالتماس التمويل من المهجر أو من ممولي الخليج. كما أن القليل من الأيديولوجيا لن يضر، بمسحة من أحد أصناف الإسلام السياسي. وستحتاج أيضا إلى النقود، لكن 3 أو 4 آلاف دولار تكفي لبدء المشروع.

قبل الانتفاضة بكثير كان أبو عبد الله وإخوته قد ربحوا ثروة من نشاطهم في الاستيراد والتصدير والنقل عبر الحدود. كانت شاحناتهم تعبر حدود تركيا وسوريا ولبنان والأردن والعراق وحتى السعودية، فتنقل الخضر التركية إلى العراق وتعود بالوقود، وتأخذ الفواكه السورية عبر الأردن وحتى الحدود السعودية. ولم تكن كل المنتجات التي يتجرون فيها سريعة الفساد، ولا كانت كلها مشروعة؛ فالبنزين السوري المدعم كان يهرّب إلى لبنان وتركيا.

كان هؤلاء الإخوة، ككثيرين من نخبة التجار الأثرياء، مسلمين محافظين، رغم أنهم ليسوا راديكاليين ولا سلفيين. وبفضل ثروتهم وديانتهم، كانت لهم علاقات تمتد عبر الوسط التجاري في الشرق الأوسط كله، شبكة التهريب غير المشروعة الخاصة بالمنطقة، والأهم من هذا، علاقات بكبار الدعاة والعائلات الدينية في الخليج. وحين هبت بلدتهم الأم حمص مبكرا، في انتفاضة تحولت سريعا إلى عصيان مسلح، كان السوريون الأثرياء ـ والمتدينون عادة ـ مثل أبو عبد الله هم الذين يرسلون المال ويديرون الخدمات ويوفرون الطعام والوقود. وما زال دورهم محوريا في أعمال الإغاثة الإنسانية في سوريا.

استغل أبو عبد الله شبكته الواسعة الممتدة عبر الحدود لجلب السلاح والذخيرة أيضا. "كانت لي خمس شاحنات بيك-أب مليئة بالسلاح والذخيرة تأتي من لبنان وعشرة من العراق كل أسبوع. بدأنا ببنادق الصيد ونحن الآن نجلب المدافع المضادة للطائرات. نحن مدد الثورة".

إنه رجل طويل، متين البنيان ويتمتع بثقة الثري المحاط بفلاحين فقراء. ويدير نشاط تمويل الانتفاضة وتسليحها من حجرة صغيرة مبنية بالأسمنت المسلح في أعماق بستان لأشجار الصنوبر والزيتون المتحدرة على سفح جبل بمحافظة إدلب. تأتي الوفود من أنحاء البلاد للجلوس معه على الأرض. بعضهم يطلب السلاح وبعضهم يأتي بالمال. مئات الآلاف من الدولارات تمر عبر الغرفة. وفي الليل يرقد على حصيرة رفيعة على الخرسانة العارية. لقد اتضح أن التحول من الخضر إلى الأسلحة أمر في غاية السهولة، كما قال. لكن مع اشتداد القتال وانتشاره، نشأت الحاجة إلى مزيد من التنظيم ومزيد من المال لدفع المعركة باتجاه نقطة الحسم. وتم وضع خطة عريضة لتنسيق تدفق السلاح.

"بلغنا نقطة في القتال، في ربيع 2012، كنا نحتاج عندها إلى دعم حقيقي. كنا بحاجة إلى مدافع آلية ثقيلة، أسلحة حقيقية. لم تكن النقود عقبة قط: كم تريد. 50 مليون دولار، 100 مليون دولار ـ لا مشكلة. لكن الأسلحة الثقيلة كان العثور عليها صعبا: الأتراك ـ ولولاهم لما بدأت هذه الثورة ـ كانوا يريدون من الأمريكان ضوءا أخضر قبل أن يسمحوا لنا بشحن الأسلحة. كان علينا إقناع سعد الحريري، ابن رفيق الحريري ورئيس الوزراء السابق، بالذهاب للضغط على السعوديين، بأن يقول لهم: "لقد تخليتم عن سنة العراق فخسرتم بلدا لحساب إيران. إذا كررتم نفس الفعلة فلن تخسروا سوريا فقط، بل لبنان معها أيضا". وكانت الفكرة أن السعوديين بدورهم سيضغطون على الأمريكان لإعطاء الأتراك الضوء الأخضر لإدخال أسلحة حقيقية إلى البلاد".

وهكذا فجأة، بينما كانت الثورة على الأرض لم تزل في أيدي جماعات صغيرة من المتمردين والنشطاء، بدأت مجموعة من المصالح الخارجية في التآمر لتوجيه الأحداث بطرق مواتية لها. فكان هناك السعوديون، الذين لم يرق لهم بشار قط لكنهم يخشون مزيدا من الفوضى في الشرق الأوسط. والقطريون الذين يضعون أنفسهم في صدارة ثورات الربيع العربي، باستخدام شبكاتهم التلفزيونية مرهوبة الجانب لحشد التأييد، وثروتهم المهولة لتمويل شحنات الأسلحة غير المشروعة إلى الليبيين. وبالطبع كان هناك الفرنسيون والأمريكان.

"بارك الأمريكان الأمر"، كما قال أبو عبد الله، "وتجمع كافة اللاعبين في غرفة للعمليات. كان بها القطريون والسعوديون والأتراك والحريري". وبحكمتهم اللانهائية قرر اللاعبون وضع الغرفة ـ المعروفة بغرفة التسليح أو غرفة اسطنبول، على اسم المدينة التي تقع فيها ـ أمانة في يد سياسي لبناني باسم عقاب صقر، وهو عضو في حزب الحريري، يراه الجميع مستبدا بالقرار ومثيرا للانقسام. كانت الخطة تقضي بتكوين مجالس عسكرية يقودها ويهيمن عليها منشقون عن الجيش السوري ـ وهذا بغرض ترضية الأمريكان، الذين انتابهم القلق من النفوذ المتصاعد للإسلاميين. وكان المفترض أن تتفق كافة الجماعات المحاربة في النهاية على الائتمار بأمر المجالس العسكرية لأنها مصدر السلاح الرئيسي.

وفي البداية بدت الخطة وكأنها تحقق نجاحا. مع اقتراب الصيف ظهرت مجالس عسكرية في حلب وحمص وإدلب ودير الزور، والتحقت بها بعض الكتائب والفصائل الكبرى. وبدأت أسلحة أفضل ـ وإن لم تكن مضادات الدبابات والطائرات المتطورة التي طلبها المتمردون ـ تدخل سوريا من تركيا. حتى تلك النقطة كانت معظم الأسلحة المهربة من تركيا تأتي في شحنات صغيرة على ظهور الخيل أو محمولة بأيدي الوسطاء أو المحاربين أنفسهم، لكن تلك الشحنات الجديدة كانت هائلة الحجم، محمولة على شاحنات. وظل العراق أكبر مورد منفرد، كميراث لثلاثة عقود من الحرب، لكن أكثر الذخيرة العراقية كانت رديئة النوعية، بسبب دفنها في الرمال طوال أعوام. وهكذا تم استقبال الشحنات الجديدة بلهفة.

في مدينة دير الزور في مطلع الصيف، جلست مع ضابط التسليح الرئيسي للمجلس العسكري، الذي كان قد حول غرفة نومه إلى ترسانة. فشاهدته وهو يفتح حقائب السفر ويوزع مدافع الآر بي جيه على مقاتليه، بصواريخ جديدة تماما في أغلفتها البلاستيكية، مع بنادق نمساوية (فائضة أو مجددة) وقنابل يدوية سويسرية وبنادق قناصة أسترالية ـ والقائمة طويلة.

إلا أن الخطة، بعد أسابيع قليلة، بدأت تتهاوى. في دير الزور اتهم أحد المنشقين عن الجيش المجلس العسكري بأنه تحت هيمنة قبيلة وقرية واحدة. فأقام مجلسا منافسا. وفي إدلب وحمص كانت النظرة السائدة للمجلس هي أنه مفرط الضعف، مع تنامي نفوذ الكتائب المنافسة. كما اتهمت غرفة اسطنبول بالمحاباة. بحلول منتصف يوليو لم يبد أن ثمة مجلسا يعمل إلا في حلب، وكان المتمردون يزحفون على المدينة.

بعد أسبوعين من القتال سيطر المتمردون على أجزاء كبيرة من حلب، لكنهم سرعان ما تعرضوا لانتكاسة خطيرة في منطقة صلاح الدين. توقف مرور شحنات الأسلحة في سبتمبر. عند مروري من هناك كانت المناوشات لم تزل دائرة على عشرات الجبهات التي تقطع المدنية، والقصف والغارات الجوية تدك البنايات السكنية الخرسانية بلا رحمة. كان الجو حارا وخانقا، بنسمات متفرقة تحمل رائحة الموت والقمامة المتحللة، وتهز الستائر في النوافذ المحطمة.

قبيل الغسق عادت طائرة كانت تحوم في الجو طوال ساعات، ولم تبتعد إلا لوهلة قصيرة بعد أن أهدر المتمردون ذخيرتهم الثمينة عليها، عادت بعزيمة متجددة. ومع كل دورة كان المتمردون يهرعون للاحتماء بسواتر وهمية: دغلة، شجرة، منزل ـ لا شيء من هذا يمكن أن يمنع قنبلة، لكنه يعطي على الأقل شعورا بالحماية. كانت الطائرة تحوم ثم تنقض وتطلق قذيفة سوداء، ثم تحلق من جديد في منحنى رشيق وكأنها راقصة. وتختفي القذيفة خلف أحد المباني. في البداية سحابة ـ بنية وسوداء ورمادية ـ ثم انفجار راعد. وتمر الطائرة فوق الرؤوس ثم تبتعد.

كان هناك ضابطان من أعضاء مجلس حلب العسكري يؤمنان الجبهة. النقيب حسام ـ واسمه الحركي أبو محمد ـ كان مستديرا وطويلا ودائم الضحك. وكان يقود سيارة قديمة محملة بالذخيرة، لتنسيق الهجمات وإمداد المقاتلين بطول أحد قطاعات الشارع. أما صديقه مصباح، أو أبو حسين، فكان قصيرا ومتوترا. كان يهرع من مناوشة إلى أخرى، ويقود الرجال عبر أنفاق محفورة تحت العمارات السكنية، منتقلا عبر غرف النوم والمطابخ، لاختيار مواقع خلف ستائر الدانتيللا لقنص جنود الحكومة.

قال حسام: "قبل دخول حلب وعدونا بالذخيرة. قالوا لنا أن نبدأ القتال هنا وسوف يمدوننا بالدعم. حسنا، لقد حصلنا على بعضه". كان النقيب، مثل صيدلي ريفي يوزع أقراصه الثمينة في أغلفة فردية، ينفذ مهام وظيفته الشاقة بحرص وانتباه دقيق. وكان احتياطيه من الذخيرة، الذي يجب أن يخدم الجبهة كلها، قد تضاءل إلى ألف طلقة كلاشنيكوف و6 صواريخ آر بي جيه، والمقاتلون يحاصرونه: فهم بحاجة للذخيرة وهو لا يملك منها شيئا.

كان قد حضر مؤخرا اجتماعا مع بقية قادة حلب، وكانت الصدوع بين المجالس العسكرية والكتائب قد بدأت تتسع. فقال: "هاجم الإسلاميون المجالس في الاجتماع، فهم مغتاظون من سيطرة الضباط على الذخيرة الجديدة. يظنون أننا نريد إنشاء حكم عسكري، ويعتبروننا كفاراً لأننا أيدنا النظام ذات مرة".

وقال صديقه مصباح: " هذه أمة علمانية، وهم يريدون إعادتنا إلى أيام الخلافة".

بعد أسبوع قُتل مصباح، وتبخر ما أمكنه الحصول عليه من ذخائر، وزادت شكاوى الرجال أكثر من أي وقت سبق، فقرر حسام الرحيل شمالا للبحث عن قادة مجلس حلب العسكري كي يسألهم عن الذخيرة الموعودة. قاد حسام سيارته لعدة ساعات وسط حقول الهيش والقرى، مقتربا من الحدود التركية، فوصل إلى فيللا فاخرة بجدران بيضاء وحمام سباحة كبير واقتيد إلى الداخل. كانت الأرضيات الرخامية باردة ونظيفة. والثلاجة محملة باللحوم والفاكهة بل وكعكة آيس كريم. كان بضعة صحفيين، فرنسيون وعرب، يتسكعون في البهو الرخامي ويستخدمون الإنترنت اللاسلكي. ربما كان الحر، والموت، وأسابيع القتال على الجبهة، أو ربما كانت هجمة السكر من كعكة الآيس كريم، لكن حسام فقد أعصابه وبدأ يصيح.

"يجب أن تأتوا وتشاهدوا ما يحدث. نحن نموت هناك".

وصل رئيس المجلس، عقيد سابق بزي الجبهة وسترة واقية من حرب فييتنام، ومعه مساعده ومحاسبه، وهو مدرس سابق باسم علي ديبو، يشغل الآن منصب أمين ماليات الترسانة. وتم أخذ حسام على جنب، ووعده بالذخيرة من جديد، وإعادته إلى حلب.

أقلني علي ديبو بسيارته الفاخرة إلى فيللا كبيرة أخرى في قرية قريبة. كانت شاحنة مرسيدس قديمة تقف بالخارج، مغطاة بالمشمع، والمقاتلين يتحلقون تحت شجرة برتقال. وكان هناك اثنان من القادة ينتظران مقابلة علي، الذي لم يعد الآن التابع الوديع الذي كانه في حضرة رئيس المجلس، بل اتخذ سمت القائد الأعلى للمؤمنين، فاستجوب أحد الرجلين: "لماذا تحتاجون إلى كل هذه الذخيرة؟" لكنه وقع الأوراق الضرورية وبدأ الرجال تحت شجرة البرتقال يفرغون صناديق الذخيرة من الشاحنة على شاحنة بيك-أب منتظرة. كانت الشاحنة الكبيرة ترسانة المجلس المتنقلة، وبها 450 ألف دفعة من الرصاص ومئات من صواريخ الآر بي جيه.

والتفت علي ديبو إلى ملتمس آخر. "لا أريد منك سوى مقطع فيديو قصير يمكن نشره على يوتيوب، يذكر اسمك ووحدتك وانتماءك إلى مجلس حلب العسكري. وبعدها يمكنك أن تفعل ما يحلو لك. أريد أن أثبت للأمريكان أن هناك وحدات تنضم إلى المجلس. لقد قابلت أمريكيين بالأمس وقالا لي إننا لن نحصل على أسلحة متطورة حتى نثبت اتحادنا تحت قيادة ضباط المجالس العسكرية. صور الفيديو فقط، ودع الباقي لي".

بعد أشهر زرت حسام. كان قد اكتشف أن المدرس السابق كان يدير نشاطا لحسابه الخاص، فيختلس الأسلحة المخصصة للقوات على الجبهة ويشتغلها لبناء قاعدة خاصة به من الموالين. وكانت مسامير معدنية تبرز من ساقيه: بعد عودته إلى حلب بوقت قصير انقلبت سيارته وهو يحاول الفرار من قصف جوي، فقتل أحد أقرب أصدقائه ـ بل إن معظم أصدقائه الآن كانوا إما موتى أو مصابين بجروح جسيمة. "كان علي ديبو يشيد إقطاعيته الخاصة، ويستغل الذخيرة المخصصة لحلب للتودد إلى قادة آخرين". وقال إن المجلس العسكري الآن مجرد ميليشيا وسط الكتائب المتناحرة. "المشكلة هي أنهم كلما أقاموا مجلسا للإشراف على المجهود الحربي، تحول المجلس إلى ميليشيا. لا يمكنهم التمييز بين مصالحهم الشخصية ومصالح الأمة".

في نوفمبر الماضي، تحت ضغط الأمريكان، وبوعود بتمويل أكبر وأسلحة أكثر من بلدان الخليج، اجتمعت كافة فصائل المعارضة في الدوحة، وتم إنشاء مجلس جديد يدعى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. وتحت راية هذا الائتلاف كان يفترض بهيكل قيادة عسكرية جديد أن يضم كافة الجماعات المقاتلة، والقادة داخل البلاد وخارجها. لكن تدفق الأسلحة الموعود لم يتحقق قط: كانت هناك كميات قليلة من الذخائر، ولكن بدون شحنات ذات بال. وظلت الأسلحة القادمة فقط هي تلك القادمة من المهربين العراقيين وأحيانا الأتراك.

كنت أقف مع أبو عبد الله على تل موحل لا يبعد كثيرا عن الحدود التركية. بالقرب منا كان ثمة معسكر مرتجل للاجئين، ومياه المجاري تتسرب بين الخيام، وأطفال يرتعدون أمام شاحنة مياه، حيث كانوا يلعبون بالأواني البراقة التي توزعها إحدى وكالات الإغاثة. وضعها بعضهم على الرؤوس كالخوذات وجلس آخرون فوقها. كان السور الذي يفصلنا عن تركيا قد انهار؛ وعربتا جيب تابعتان للجيش التركي تهدران على الطريق جيئة وذهابا.

أشار أبو عبد الله إلى نقطة عسكرية تركية على الجهة الأخرى من التل. "هنا كنا نتولى تسليم الشحنات: يجلبونها إلى النقطة ونتولى الأمر من هناك، لكننا لا نحصل الآن على أكثر من 10 أو 15 ألف دفعة أسبوعيا. وهذا لا شيء. كان العراق المورد الرئيسي، لكننا لا نستطيع الحصول على شيء ذي بال من هناك أيضاً. أرسلت أشخاصا يستطلعون طوال أسابيع، ولم نجد سوى مدفع مضاد للطائرات".

بعد يأسه من الأتراك وغرفة تسليحهم، تحول أبو عبد الله وأصدقاؤه إلى الليبيين. فليبيا قوة ثورية متحمسة وسوق هائلة للسلاح في وقت واحد. "في العراق نشتري عددا معينا من الطلقات، أما في ليبيا فهم يبيعونها بالوزن، بالطن، وبرخص التراب. لكننا لا نستطيع شحنها بحرا. هناك 13 دولة تتحكم في مياه المتوسط ونحتاج إلى إذن منها جميعا أو من الأمريكان. ولذا ينقل القطريون السلاح بالطائرات إلى الدوحة، ثم يشحنونه من تركيا".

قدنا السيارة بطول الحدود بحثا عن مكان للعبور، لكننا توقفنا بطريق الخطأ أمام البوابة الخطأ. وظهر رجل ملتح بسترة عسكرية يحمل كلاشنيكوف، وأشار لنا كي ندخل بمصباحه اليدوي، ثم ظهر رجل أكبر سنا وأمرنا بالتوقف.

قال أبو عبد الله: "نريد العبور إلى تركيا".

فقال الكهل بعربية ثقيلة اللكنة: "لا يمكنكما هذا، هذه ممتلكات خاصة". كانت هناك خلفه ثلاثة خيام وأقمشة لنصب المزيد. وقال بلهجة مهذبة ولكنها حاسمة: "يجب أن ترحلا على الفور". كان هذا المعسكر، المقام على الحدود التركية مباشرة، مخصصا للجهاديين الأجانب ـ الوحيدين، كما اشتكى أبو عبد الله، الذين يحصلون على المال والمعدات هذه الأيام. كان حكيم المطيري، الداعية السلفي الكويتي، يرسل لهم ملايين الدولارات. قال أبو عبد الله: "واجهته في أحد الاجتماعات قبل أسابيع قليلة، وقلت له إنك تختطف ثورتنا. الجهاديون يشترون السلاح والذخيرة من الوحدات الأخرى. ليست لديهم مشاكل في النقود".

في أواخر يناير قابلت أحد أصدقاء أبو عبد الله؛ كان تاجرا ثريا ذات يوم، لكنه شاهد ثروته تتناقص ونشاطه كله يتوقف. كانت شفتاه ترتعدان غضبا وظل يخبط المائدة بقبضته.

"لماذا يفعل الأمريكان هذا بنا؟ قالوا إنهم لن يرسلوا لنا السلاح حتى نتحد. وهكذا اتحدنا في الدوحة، فما عذرهم الآن؟ يقولون إن الجهاديين هم السبب، لكن الجهاديين هم الذين يتقدمون. أبو عبد الله مدين بـ400 ألف دولار ولم يعد هناك من يرسل له المال. كل شيء يذهب للجهاديين. لقد اشتروا لتوهم معسكرا عسكريا سابقا من كتيبة كانت تحارب في صف الحكومة. ذهبوا إليهم وأعطوهم لا أدري كم مليونا واشتروا المعسكر. ربما يجدر بنا جميعا التحول إلى جهاديين. ربما نحصل عندئذ على المال والدعم".