نور كبير .. على مياه كبيرة
(بيت شعر من والاس ستيفنز ـ ترجمته لنفسي، كما كنت أفعل، ونسيت القصيدة)
أيام زمان، حين كان وحش القاهرة يقبل الترويض، كنت أخرج .. وأمشي
كانت السماء مكشوفة
لا تحجبها عنا طبقات فوق طبقات من التراب والسخام
وكان الهواء شفافا! تصوروا!
فكان بوسعي تبين أرهف الفروق، وأدنى الاختلافات، بين خصائص النور، ليلاً، في المناطق والأحياء
وصلت يوما إلى تلك المنطقة ـ التي كانت غامضة ـ على تخوم المهندسين، تكاد تلامس الكيتكات لكنها لا تفعل .. هل يسمونها الآن الصحفيين؟
وهالتني طبيعة الأضواء : الأضواء هنا مكتملة، مكتفية بذاتها، كل واحد منها يشع كأنما لذاته فقط، لكنه بطريقة ما مأنوس وحميمي، ومعظمها يتخذ ذلك الشكل الأكثر حنوا وأرضية وسط جميع الأشكال الهندسية: الكرة
بعد تمشية لم تطل كثيرا وصلت إلى الكيتكات، وكان التغير لحظيا؛ فأضواء الكيتكات غلابة، صريحة، عملية و"واقعية" بشكل ما، لكن بينها تآزراً لم أجده حيث كنت لتوي، كأن كل هذه الأنوار تقتسم نوراً واحداً، يشع من كل واحد منها، ومن الجميع في وقت واحد.
في امبابة، التي لنا فيها بيوت ملك وأقارب، كانت الأنوار أخفت، وأكثر تباعداً .. ولكنها لهذا أفعل وأوضح. كانت أنوار امبابة على قدر الحاجة فقط، ولكن هذا التقشف كان يمنحها شاعرية تغيب عن عابدين، حيث تربيت ـ رغم أن امبابة ليست شاعرية .. على الإطلاق
كان الضوء في عابدين ـ ووسط البلد، بالامتداد ـ مسرفاً، وشديد التنوع في الألوان والأشكال والأنواع ودرجات السطوع، حتى الابتذال
كان بوسعك اكتشاف هذه الفروق، بأوضح ما تكون، على النيل ـ الضوء الكبير على المياه الكبيرة ـ فما يتلألأ على الماء عند الكيتكات غير ما يتوهج على كورنيش ماسبيرو وقصر النيل وبداية وسط البلد، ويختلف عما يتماوج ـ لا يكاد يبين ـ على مياه المنيل والروضة، مثلا
أما اليوم ..
اليوم أصبح الهواء في القاهرة حجابا، يغلف الأضواء ويغلف ـ بل يغلق ـ كل شيء
وصارت السماء بعيدة