الفكرة المركزية فى السلسلة دى هى إن وضع الرعاية الصحية فى مصر سىء جدا صحيح، وبيعانى من نقص فادح فى الإنفاق على قطاعه الحكومى صحيح، لكن وجهة نظرى المتواضعة هى إن جزء كبير من المشاكل ناتج عن حقيقة معينة تتجاهلها وزارة الصحة بتعمد واستهبال مع سبق الإصرار والترصد:
مستشفيات وزارة الصحة المسؤولة عن تقديم الرعاية الصحية للأغلبية العظمى من سكان هذا البلد عاجزة عن تقديم رعاية مقبولة بسبب نقص مهارة وتدريب العاملين بها، ليس لعيب فيهم، بل لوجود جهات تحتكر المعرفة والمهارات الطبية لنفسها، حتى لا ينافسها أحد على ما يسمى بـ"السوق" ـ ووزير الصحة شخصيا ينتمى دائما إلى تلك الجهات.
هذه هى الحقيقة كما أراها ببساطة، وهى لا تتعارض مع حقائق أخرى ولا تلغيها، لكنها فى رأيى تسبقها:
- مؤسسات وزارة الصحة تعانى من نقص فادح ومخجل فى التمويل ـ حقيقة.
- العاملون فى وزارة الصحة يعملون تحت ضغوط عمومية وشخصية هائلة تدفع معظمهم (شوف الصراحة بقى ـ أقول معظمهم ولا أقول بعضهم) تدفع معظمهم للتهرب من القيام بواجبات أعمالهم على الوجه الصحيح ـ حقيقة.
لكن الحقيقة الأوضح هى أن نقص التدريب والمهارات هو أكبر أسباب نقص الرعاية الصحية، وأن هذا يحدث بتواطؤ يكاد يكون صريحا من وزارة الصحة. فيما يلى مثالان دالان على ما أقول:
فى أثناء دراستى لدكتوراه أمراض الدم المعملية، سمعت عن مؤتمر مصحوب بورشة عمل للـFLOW CYTOMETRY - hematologists will relate :) كانت رئيس المؤتمر ومدير الورشة أستاذة سابقة لى فى معهد الأورام اللى كنت نايب زائر فيه، والاشتراك عن طريقها (بفلوس على فكرة، وبفلوس كتير كمان). رحت قابلتها ودار بيننا الحوار التالى:
أنا: ممكن أشترك فى ورشة الفلو؟
د. ع. ك.: المكان اللى بتشتغل فيه عندكوا مكنة؟
أنا: لا يا افندم، أنا باشتغل حاليا فى وزارة الصحة.
د. ع. ك.: يبقى انت كفاية عليك قوى تحضر المؤتمر. الورشة لأ.
خد بالك إن المؤتمر عبارة عن محاضرات نظرية، لكن ورشة العمل هى المهارات العملية الضرورية للشغل الفعلى.
أما عن عدم جدية وزارة الصحة نفسها فى الإصلاح فيكفى أقول لك إنها ما زالت حتى يومنا هذا لا تملك شبكة معلومات تغطى كافة منشآتها وتربط بعضها بالبعض، أو على الأقل منشآتها الرئيسية (المستشفيات العامة مثلا) ـ ليس فقط لا تملك، بل لا تفكر فى إنشائها أصلا. وإيه أهمية شبكة المعلومات؟ شوف المثال دة وشوف الموارد اللى بيتم إهدارها حاليا وممكن نوفرها فى وجود الشبكة:
مريض راح الوحدة الصحية التابع لها محل سكنه وكشف فى عيادة الباطنة، فطلبوا منه تحليل بول وبراز وصورة دم ـ أبسط التحاليل فى العالم. لم يسفر الكشف والتحاليل عن تشخيص محدد فتم تحويل المريض للمستوى الصحى الأعلى ـ المستشفى المركزى لمجموعة القرى التابع ليها محل سكنه ـ وهناك طلبوا منه تحليل بول وبراز وصورة دم ووظائف كبد وكلى ورسم قلب وأشعة على الصدر. لم يسفر الكشف والفحوص عن تشخيص محدد وتم تحويل المريض للمستوى الصحى الأعلى ـ المستشفى العام للمحافظة، وهناك طلبوا منه تحليل بول وبراز وصورة دم ووظائف كبد وكلى ورسم قلب وأشعة على الصدر والبطن والحوض ـ وإنزيمات البنكرياس اللى أخيرا كشفت إصابة المريض بالتهاب البنكرياس، لكن بعد إهدار موارد قد إيه نظرا لعدم وجود شبكة معلومات تخزن كل بيانات المريض التى تنتقل معه من مكان إلى مكان؟
فى الحلقات القادمة بإذن الله نبتدى نتكلم عن مداخل الحل ـ استعنا عالشقا بالله.