من شبه المتفق ـ أو المختلف ـ عليه إننا هنشوف أيام سودة, لكنها برضه لن تخلو من الفكاهة...على النحو الآتى بيانه.
يبدأ هذا الفاصل الفكاهى ـ ككل فواصلنا الفكاهية الأخيرة ـ عقب الاستفتاء السعيد, الذى تجسدت فيه الإرادة الشعبية, وأسبغت الشرعية على كل مشتاق إليها, بحق أو بدون حق.
ما علينا, المهم إن الشعب قال كلمته, واختار الانتخابات أولا ـ أو قال نعم للدين, فى أقوال أخرى.
أعقب هذا فاصل قصير صدرت خلاله بعض البرطمة التى عللها البعض بحلاوة الروح, عن معسكر الحريات, تهذى بما معناه إن الملعب قد لا يكون مهيأ تماما للعبة الديمقراطية, وقد تكون الخطوة الأولى على طريق تهيئة الملعب هى وضع الدستور أولا.
وعنها وبدأت القوى الوطنية, وبالذات التقدمية ـ لأن الإسلامية تهليلها وتكبيرها مفروغ منه طبعا ـ بدأت تهلل لهذا الاختيار القويم, وتطلق نيرانها على أى وكل معترض على هذا الترتيب, بحجة لا ننكر وجاهتها, ومفادها أن:
1- الشعب أدرى بمصلحته, وهو يتمتع بأهلية كاملة لا تنقص خردلة لممارسة الديمقراطية وحق الانتخاب.
2- الدستور مجرد كلام على ورق, تستعمله السلطات الباطشة بديلا عن ورق التلاويت, وتصونه السلطات المنتخبة وتضعه فى ننى أعينها, بدليل امتلاء دستور 71 بمواد الحريات.
3- أصلا أصلا, الحريات اللى انتوا مقهورين عليها قوى دى مش مهمة للدرجة دى. المهم العدالة الاجتماعية وحقوق الغلابة, اللى عادة ما تهملها الدساتير. العبرة ـ دائما وأبدا ـ بالممارسة العملية للحكومة المنتخبة, المسؤولة أمام الشعب الذى جاء بها عن طريق...بالضبط, الانتخابات أولا.
طيب, كلام جميل وكلام معقول, مقدرش أقول حاجة عنه...وأنا فعلا ما قلتش حاجة عنه, ليس فقط لأنه جميل ومعقول, ولكن أيضا لأننى لا أريد أن أُحرق بجاز وسخ.
أفندم؟ بتقول إيه؟
زى ما بقول لحضرتك والله...فقد بلغ من اقتناع معسكر الانتخابات أولا بمتانة حجته, وخاصة جناحه اليسارى التقدمى, أنه اعتبرالحديث عن الدستور فى ذلك العرس الديمقراطى البهيج نخبوية بغيضة, يمكن لمن يروجها أن يذهب ويولع فى نفسه بجاز وسخ...هذا ما قاله أحد أبرز نشطائهم بالحرف الواحد فى حوار تلفزيونى مشهود.
ما علينا مرة أخرى, فلسنا فى معرض العتاب...المهم أننا عشنا ـ ونعيش ـ منذ ذلك الحين فى انتظار الانتخابات والحكومة المنتخبة.
إلى أن جاءت تصريحات ممدوح شاهين الأخيرة لتوقظ فى دماغى شكوكا, أشهد الله أنها ظهرت منذ نشر الإعلان الدستورى الميمون ولم تختف تماما بعدها, إلا أننى حرصت دوما على كبتها فى تلافيف عقلى الباطن, لعل وعسى.
قاللك إيه سيادة اللوا؟
أبدا, لقد تساءل مستنكرا: مين قال إن البرلمان القادم هيشكل الحكومة؟ ما زال النظام رئاسيا.
يعنى إيه؟
يعنى إيه يعنى إيه؟ ما الكلام واضح. النظام رئاسى وسلطة تشكيل الحكومة فى يد رئيس الجمهورية, اللى هو المجلس, اللى هو المشير, وعلى المتضرر مراجعة الإعلان الدستورى, هل ورد فيه أى ذكر لبرلمان منتخب يشكل الحكومة؟
وهكذا بدهتنى الحقيقة, كما يقال بالنحوى. أو الحقيقة إنها ما بدهتنيش قوى يعنى, لإنها كانت تخايلنى فى جانب من عقلى وأنا أتغابى عنها عمدا, حتى هتك سيادة اللوا ممدوح شاهين ستر غبائى, ووضعنى ـ أنا والكثيرين فيما أظن ـ أمام مأزقنا المقلوظ: إذا ما كانش البرلمان هيجيب حكومة, أمال هيجيب لنا إيه إن شاء الله؟
نعم؟ إنت هتستهبل بقى؟ هيجيب لنا تشريعات. ما هى دى شغلة البرلمان الأساسية, واسمه فى الدنيا كلها السلطة التشريعية.
ماشى يا فالح, تشريعات على أساس إيه؟ فين الدستور اللى هيستوعب هذه التشريعات ويُرجع إليه فيها؟ ولا هيحطوا تشريعات تسقط بعد ذلك بدعوى عدم الدستورية؟
آه, الظاهر إنك مش عارف حاجة وبتتكلم وخلاص. ما هو البرلمان دة برضه هو اللى هيحط الدستور, وأكيد هيعمل حسابه يعنى.
طيب, يعنى إحنا هنفترض إن كل نايب من نواب هذا البرلمان هيبتدى دورته التشريعية وهو عنده تصور معين فى دماغه, ومش بس فى دماغه لوحده, إنما كمان متفق عليه ما بين بقية النواب, أو على الأقل نواب الأغلبية, عن شكل الدستور القادم, والتشريعات التى يمكن أن تتفق معه, وبالتالى نفترض أيضا أن عملية وضع الدستور هى الأولوية القصوى والمهمة الأولى وربما الأخيرة لبرلماننا المنتخب, المنتظر, القادم.
فاصل من الصمت حتى يستوعب الجميع هذا الكشف "الجديد".
أيوة, آه والله العظيم هو دة اللى هيحصل:
إحنا يا حضرات اتخانقنا خناقة الانتخابات أولا عشان ننتخب البرلمان اللى هيعمل الدستور أولا (بس دستور بالأغلبية والمغالبة وليس بالتوافق والإجماع), وشكرا وسلامو عليكو.
على بال بقى ما تبتدوا تفكروا فى دلالة هذا الاكتشاف,وعواقبه, ومقتضياته, أحب أفكركم بجانب واحد على الأقل من جوانب الفكاهة فى قلب هذه الأشجان:
بعد أن أنفق نشطاء ومثقفو معسكر "الانتخابات أولا" كل هذا الوقت والجهد لإقناع "الشعب" بأن الدستور شىء نخبوى بغيض ومش مهم خالص دلوقتى ـ أو حتى مش مهم فى أى وقت ـ والانتخابات هى المهمة, ولازم نحشد الناس للمشاركة فيها, وعلى كل مواطن شريف, خصوصا لو كان كادح وحقه مهضوم, أن يمارس حقه الانتخابى بعناية فائقة, ويختار المرشح اللى هيمثله فى البرلمان ويجيب له حقه, إلخ...بعد كل دة, أحب أشوف نفس النشطاء والمثقفين إزاى هيقنعوا نفس الشعب إنه يهتم ويشارك فى انتخابات كل دورها إنها تجيب لنا برلمان يكتب لنا الدستور, اللى هو مش مهم خالص دلوقتى.